بينما العالم مشغول بالحرب الروسية – الأوكرانية علينا ألا فقط أن ننظر شمالاً ولكن جنوباً فالبحر الأحمر كان ولا يزال من أكثر المساحات المائية أهميةً في العالم، وذلك منذ فجر البشرية. وشكل جسره الشمالي في شبه جزيرة سيناء، ومضيق باب المندب في أقصى جنوبه، الطريق الديموغرافي الأهم ومع فتح ” قناة السويس” في عام 1876، أهدى العالم الحديث جسراً حيوياً للتجارة الدولية لنقل البترول ومشتقاته.
فالقناة في الشمال، فتحت الشريان الحيوي أمام قارة أوروبا، و”باب المندب” ربط هذا الشريان بين المتوسط والمحيط الهندي، مغيراً تاريخ الاقتصاد العالمي إلى الأبد، مما صعد أطماع القوى الدولية والإقليمية المعنية بهذا الشريان.
مرت الحروب في منطقة البحر الأحمر خلال القرن العشرين واستمرت حتى عهدنا الحالي، من عام 56 فـ 67 فـ 73 فالاستعمار البريطاني على مصر والسودان، إلى حملة تحرير الحجاز والأردن من العثمانيين إلى الساحل العربي شرق البحر، إلى انسحاب البريطانيين من الساحل الغربي للبحر، إلى حروب إسرائيل ومصر حول سيناء، إلى إثيوبيا وإريتريا وجيبوتي، إلى حرب توحيد اليمنَين في التسعينيات، وحرب الحوثيين، إلى معاهدات أبراهام حديثاً. هذه البقعة وصلت الآن إلى القمة في تاريخها، وهي على حسب خبراء متخصصون إما أن تصل إلى السلام والاستقرار والازدهار، وإما إلى حقبة حروب ومواجهات تستمر لسنوات. وهناك قوتان ستدفعان بمنطقة البحر الأحمر إلى واقع أو آخر.
إن التهديد الأول لأمن واستقرار منطقة البحر الأحمر استراتيجياً، منذ انتهاء الحرب الباردة، كان يتمثل بالقوى الإسلامية المقاتلة والمتحالفة مع المتطرفين، التي أرادت إقامة شبه خلافة على شطرَي البحر، عبر إسقاط الأنظمة في القاهرة، والرياض وصنعاء، والاستفادة من نظام البشير في الخرطوم لبناء قواعد إقليمية لهكذا مشروع.
وكما هو معروف كانت النواة لهذا المشروع، المقاتلين العائدين من “أفغانستان” وهزيمة السوفيات في 1989. وقد حاولوا إقناع المملكة العربية السعودية بدعمهم لإنهاء ما أسموه “الأنظمة الكافرة” ولكنها لفظتهم، فاجتمعوا تحت مظلة حسن الترابي في الخرطوم في عام 1992 وأطلقوا حملتهم لإسقاط الحكومات المعتدلة وضرب الولايات المتحدة، وكان هدفهم الاستراتيجي أساساً وأولاً إسقاط مصر.
وحاولت هذه القوى، انطلاقاً من سيطرة “الإخوان” على مصر جعل هذا البحر أكبر قاعدة لجيوش اعتقدوا أنهم بإمكانهم السيطرة عليها، إبّان ما عُرف بـ”الربيع العربي”.
و لكن ثورة مصر الشعبية أسقطت المشروع المتطرف في أرض النيل في عام 2013. وأتت إصلاحات السعودية لتنهي هذا الخطر في تلك الدولة منذ عام 2014. وغيّرت ثورة السودان اتجاه الدولة في الخرطوم في عام 2019. فنجحت دول البحر الأحمر الكبرى، مصر والسعودية، والسودان، في إنهاء المشروع الإرهابي الذي كاد أن يسلم الساحلَين إلى التطرف والحروب الدائمة. ويبقى لدى “القاعدة” وبعض الميليشيات المتطرفة جيوباً في اليمن وبعض الخلايا النائمة في إريتريا ومنطقة القرن الأفريقي .
ويبقى الخطر الثاني وهو التحدي الإيراني لمنطقة البحر الأحمر الذي توسع وتعمق منذ عام 2009 تقريباً، إيران لها مطامع إقليمية عقائدية، غير خفية، فإضافة إلى تمددها في الهلال الخصيب من العراق إلى لبنان، لنظامها مطامع تاريخية في الجزيرة العربية، تتجسد في النهاية بالسيطرة على مناطق في شرق وجنوب السعودية، للوصول إلى أقدس مقدسات المسلمين، مكة والمدينة.
لذلك فإن الوصول إلى البحر الأحمر يخدم هكذا استراتيجية لتطويق المملكة، كما تحتاج للمرور عبر قناة السويس للوصول إلى الساحل السوري واللبناني، عبر المتوسط، من هذا المنطلق، دعم النظام الإيراني ميليشيات الحوثي منذ انطلاقتها العسكرية حوالى عام 2010 من صعدة، شمال اليمن.
ودخلت طهران حرب اليمن بهدف إقامة جيشاً إيرانياً على حدود الحجاز وعلى مسافة جغرافية خطرة من مكة والمدينة، القلب الروحي للعالم الإسلامي، ووصولاً إلى مضيق باب المندب، ما يريده مخططو الحرب الإيرانية من اليمن زرع منصات الصواريخ الباليستية الإيرانية، لتهديد الداخل السعودي وحتى استهداف الخليج من اليمن، ومن هنا يُفهم تعنت الحوثيين بالبقاء في ميناء الحديدة.
إن خطة إيران الاستراتيجية حيال البحر الأحمر هي بالطبع إقامة نظام على مثال “حزب الله” يسيطر على الساحل اليمني، ومد نفوذها باتجاه الجانب الأفريقي للبحر، من خلال مشاريع تجارية يمولها الاتفاق النووي، إذا عادت أمريكا إليه، وتتكل طهران أيضاً على أصدقائها الروس الذين يحاولون الحصول على قاعدة على ساحل السودان .
الخلاصة، إيران تريد منطقة نفوذ في البحر الأحمر الجنوبي للسيطرة على الملاحة عبر باب المندب، والمقايضة مع حرية ملاحتها عبر قناة السويس، ففي منطق القيادة الإيرانية، حرب اليمن هي جزء من حرب السيطرة على البحر الأحمر.
تقود المملكة العربية السعودية جهود المواجهة بمساعدة شركائها الإقليميين في اليمن، تعتمد الرياض على الحكومة الشرعية المعترف بها دولياً، وعلى القوات الميدانية للمجلس المركزي الجنوبي. وفي الجزيرة ككل، تدعم الإمارات والبحرين، التحرك السعودي المناهض لإيران.
ويقف التحالف العربي إلى جانب الرياض، بما فيه الأردن، الذي له ميناء العقبة على البحر الأحمر. كما تتضامن مصر، التي لها سواحل طويلة في سيناء وأفريقيا، مع التحالف.
وصرحت مصر أكثر من مرة أنها تعترف بالحكومة الشرعية اليمنية، وأنها لن تقبل بتحويل هذا البحر والممرات المائية إلى بحيرة عسكرية، إذ إن القطع البحرية الإيرانية ستواجه تحالفاً للقوات البحرية السعودية، والمصرية والأردنية، شمالاً في البحر الاحمر، ولن تنجو في أي مواجهة. أما في جنوب هذا البحر، فقد تتواجه مع السعوديين ، والسفن الإيرانية ستكون بعيدة عن قواعدها في الخليج.
إلا أن السؤال الأكبر يبقى حول موقف الولايات المتحدة من المناورات الإيرانية في منطقة البحر الاحمر. إدارة جو بايدن لن تكون البادئة في مواجهة بحرية مع إيران في المياه الدولية، لكن القوات الأمريكية كما يؤكد الخبراء تنسق مع القوات السعودية والمصرية ، إذ إن الاتفاق النووي لا يزال هدفاً للإدارة حتى اليوم .
وبالخلاصة لا يزال جنوب البحر الأحمر منطقة غير مستقرة ما دام الحوثيون يسيطرون على سواحل يمنية، نحن على ثقة كاملة في حكمة قادتنا أنهم يعملون كل ما في وسعهم للجنوح نحو التهدئة والسلام لأن إشعال هذا الجنوب سيكون كارثي ونطلب الحكمة لقادة إيران ونتساءل ألم يحن الوقت لفتح قنوات أتصال معها لعلهم يفهمون ؟