رسالة عيد الميلاد المجيد لعام ٢٠٢٣ للبطريرك مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان
رسالة بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان بمناسبة عيد الميلاد المجيد لعام 2023، بعنوان: “الله يكلّمنا بابنِهِ”
إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الإحترام
وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل، وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرب
اللائذين بالكرسي البطريركي الأنطاكي في لبنان وبلاد الشرق وعالم الانتشار
نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالرب يسوع، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات:
))ܐܰܠܳܗܳܐ ܡܡܰܠܶܠ ܥܰܡܰܢ ܒܰܒܪܶܗ((
“الله يكلّمنا بابنِهِ”
“إنّ الله كلَّمنا في آخر الأيّام هذه بابنٍ جعلَهُ وارثاً لكلّ شيء، وبه أنشأ العالَمين” (عب 1: 1-2(
مقدّمة
يطيب لنا أن نستهلّ رسالتنا الميلادية هذه بتقديم التهاني الحارّة مع الأدعية الأبوية والتمنّيات القلبية، بمناسبة عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح بالجسد وحلول العام الجديد 2024، إلى جميع إخوتنا رؤساء الأساقفة والأساقفة الأجلاء آباء السينودس المقدس لكنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، وأبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالربّ، في لبنان وسوريا والعراق والخليج العربي والأراضي المقدّسة والأردن ومصر وتركيا وأوروبا والأميركتين وأستراليا.
ونرفع تضرّعنا إلى كلمة الله المتأنّس أن يمنح بميلاده العجيب في بيت لحم المسكونةَ السلام والأمان، ويفيض على عالمنا الرازح تحت ثقل الآلام والحروب والنزاعات والأوبئة والكوارث، نِعَمَ التآخي والعدل والتضامن، وأن يغمر قلوبنا بالرجاء الوطيد والفرح الدائم، ويهب بشريتنا جمعاء عاماً جديداً مفعَماً بالخير والبركة، ليحظى جميع الناس بالطمأنينة والاستقرار في بلادهم، وينعموا بالصحّة والعافية نفساً وجسداً وروحاً، وتملك المحبّة والألفة والوئام بروح الأخوّة المعطاءة بتجرُّد والوحدة الحقيقية في العائلات والمجتمعات والأوطان.
ذاك الذي هو كلمة الحياة
يُعتبَر عيد ميلاد الربّ يسوع بالجسد أعظم حدث على الإطلاق غيّر سيرَ التاريخ البشري. فابن الله الوحيد تجسّد وحلَّ بيننا. دخل تاريخنا، نحن البشر، محقّقاً بميلاده ما كانت تتوق إليه البشرية منذ أن وُجِدَ الإنسان على الأرض. ففي ليلة الميلاد هذه، “ظَهَرَ حبّ الله لنا: إنّه يسوع. وفي يسوع، صار العليّ صغيراً، كي نحبّه. في يسوع، صارَ الله طفلاً، كي نعانقه” (من موعظة قداسة البابا فرنسيس في قداس ليلة عيد الميلاد، الثلاثاء 24 ديسمبر 2019). إنّ الله صار بشراً مثلنا، وشابَهَنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة، هذا ما أكَّدَه القديس يوحنّا الرسول في رسالته الأولى: “ذاك الذي كان منذ البدء، الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي أبصرناه، ولمسَتْهُ أيدينا، ذاك الذي هو كلمة الحياة، به نبشّركم” (1يو1: 1-2). فما البشرى إلا بشرى يسوع للناس، وما كلمة الحياة إلا يسوع نفسه، فهو “الكلمة التي كانت منذ البدء، والكلمة التي كانت لدى الله، والكلمة التي هي الله. به كان كلّ شيء، وبدونه ما كانَ شيءٌ ممّا كان” (را. يو1: 1-3).
عيد ميلاد الربّ يسوع يزرع الفرح في النفوس، لأنّه عيد الأمل والابتهاج، على ما قاله الملاك للرعاة، في يوم ميلاده، إذ كانوا يحرسون قطعانهم في هجعات الليل في بيت لحم: “ها إنّي أبشّركم بفرحٍ عظيم يكون فرح الشعب كلّه: لقد وُلِدَ لكم اليوم مخلّص، وهو المسيح الربّ” (لو2: 10-11). هذا الفرح هو يسوع نفسه، المخلِّص، المسيح الربّ، الفادي، الإله المحبّ البشر، الكثير المراحم، والداعي الكلّ إلى الخلاص بموعد الخيرات المنتظَرة.
وها هو القديس مار يعقوب السروجي يتغنّى بالفرح الذي عمّ العالم بميلاد المسيح المخلّص: «ܒܝܰܠܕܶܗ ܕܰܒܪܳܐ ܗܳܐ ܦܨܺܝܚܺܝܢ ܒܶܗ ܟܽܠ ܒܶܪ̈ܝܳܬܳܐ܆ ܫܡܰܝܳܐ ܘܥܺܝܪ̈ܶܝܗ̇܆ ܐܰܪܥܳܐ ܘܝܰܠܕ̈ܶܝܗ̇ ܕܰܠܟܽܠ ܚܰܕܺܝ. ܚܕܺܝܘ ܥܶܠܳܝ̈ܶܐ ܕܰܕܢܰܚ ܣܰܒܪܳܐ ܥܰܠ ܬܰܚܬܳܝ̈ܶܐ܆ ܚܕܺܝܘ ܬܰܚܬܳܝ̈ܶܐ ܕܶܐܬܳܐ ܫܰܝܢܳܐ ܢܚܰܪܰܪ ܐܶܢܽܘܢ. ܚܕܺܝܘ ܛܳܥܰܝ̈ܳܐ ܕܶܐܬܳܐ ܪܳܥܝܳܐ ܢܟܰܢܶܫ ܐܶܢܽܘܢ܆ ܚܕܺܝܘ ܥܰܢܺܝ̈ܕܶܐ ܕܶܐܬܳܐ ܚܰܝܳܐ ܢܢܰܚܶܡ ܐܶܢܽܘܢ. ܒܝܰܠܕܶܗ ܕܰܒܪܳܐ ܗܳܐ ܦܨܺܝܚܺܝܢ ܒܶܗ ܪܰܘܡܳܐ ܘܥܽܘܡܩܳܐ܆ ܕܬܶܗܪܳܐ ܚܰܕ̱ܬܳܐ ܚܙܰܘ ܥܶܠܳܝ̈ܶܐ ܥܰܡ ܬܰܚܬܳܝ̈ܶܐ». وترجمته: “هو ذا كلُّ الخلائق فَرِحةٌ بولادة الابن، السماءُ وملائكتُها، والأرضُ وبنوها، فهو قد فرّحَ الكلّ. فرحَ العُلويون إذ أشرق الرجاءُ للسفليين، وفرحَ السفليون إذ جاء الأمنُ ليحرّرهم. فرحَ الضالّون إذ جاء الراعي ليجمعهم، فرحَ الراقدون إذ جاء الحيُّ ليبعثهم. هوذا العُلى والعمقُ فَرِحان بولادة الابن، فالعُلويون والسفليون قد رأوا عجباً جديداً” (من قصيدة عن ميلاد الرب يسوع بالجسد وأسرار الأنبياء المكتوبة بشأنه).
في المسيح أعلن الله كلمته وسرّ محبّته
في الميلاد، كلَّمنا الله بابنِهِ الحبيب يسوع المسيح. لقد قال لنا كلمَتَه التي بعدها لم يَعُدْ هناك ما يقوله لنا. في المسيح، الكلمة المتأنّس، أوحى الله لنا حقيقته وتدبيره الخلاصي وأعلن كلمته: “الله بعدما كلَّمَ الآباء قديماً بالأنبياء مرّاتٍ كثيرةً بوجوهٍ كثيرةٍ، كلَّمنا في آخر الأيّام هذه بابنٍ جعلَهُ وارثاً لكلّ شيء، وبه أنشأ العالَمين” (عب1: 1 – 2).
تعود بنا الرسالة إلى العبرانيين في مستهلّها إلى الآباء، إبراهيم وإسحق ويعقوب، وتصل إلى الأنبياء، موسى، إيليّا، أشعيا… الذين كلّمهم الله، كلّ واحد بطريقة معيّنة. وفي النهاية يصلُ وحيُ الله إلى القمّة، إلى الذروة، إلى يسوع المسيح الذي ليس بنبيٍّ مثل سائر الأنبياء. فالنبي يحمل الكلمة، أمّا يسوع المسيح فهو الكلمة. النبي محطّة في كلام الله، أمّا يسوع المسيح فهو النهاية، “هو الألف والياء، البداية والنهاية” (رؤ21: 6)، وفيه تمَّت الرؤى والإيحاءات والنبوءات والرموز.
لقد كلّم الله إبراهيم طالباً منه أن يترك أرضه وعشيرته وبيت أبيه، ويأتي إلى المكان الذي يدلّه عليه. وسمع إبراهيم صوت الله، وانطلق. وكذلك كلَّم إسحق ويعقوب، وكلّم موسى، والشعب العبراني المجتمع حول جبل سيناء الشبيه بمذبح كبير يُقيم حوله الشعب المؤمن. كما كلّم إيليّا النبي الذي لم يسمع صوت الله من خلال النار أو العاصفة أو الرعد، بل سمعه من خلال نسيم هادئ، عبر الصمت.
وفي صَمْتِ الليلِ وُلِدَ يسوع في المذود، وعرفَتْهُ البشرية الوديعة المتواضعة. إنّه الطفل الإلهي الصامت، ابن الله الذي أضحى ابن البشر، هو الكاهن الذي يربط السماء بالأرض، وإليه يأتي المحبّون والودعاء كي يحملوا كلمته ورسالةَ حبّه إلى العالم كلّه. وأولّهُم الرعاة البُسطاء الذين يُغْنُون الكثيرين بفقرهم، أسرعوا إليه ورأوه في المذود. رأوا ومضوا يُخبِرون ويُبشّرون، فكانوا صورةً للرسل الذين انطلقوا مبشّرين يوم العنصرة. وأتى المجوس، وهم أيضاً رأوا الابن وعَرَفوه، فسجدوا له، ومضوا يخبرون عنه.
فما قاله الله لنا سابقاً، على لسان الآباء والأنبياء، كان بمثابة إيحاءات ونبوءات تهيّئ لنا التجسُّد الإلهي في يسوع المسيح، الابن الوحيد. لقد أعطانا الله كلّ شيء في الابن الذي إليه وحده تتَّجه أنظارنا، إذ به اكتمل الوحي الإلهي. وكم هو مؤثّرٌ ومعبّرٌ موقف العذراء مريم وهي تناجي ابنها، تتأمّله بصمتٍ في أعماق قلبها. فهو القدير الذي لبسَ الضعف، والغني الذي افتقر، وسيكون الخادم لا السيّد، وهي أصبحت أَمَة الرب التي استسلمت لإرادة الله بكلّيتها كي تعمل فيها.
الله يكلّمنا اليوم، فما أسعدَنا!
على الإنسان ألا يفتّش عن شيء آخر جديد خارجاً عن يسوع المسيح الإله الكلمة الذي تجسَّد لأجل خلاصنا. لقد كلّم الله آباءَنا قديماً، وهو يكلّمنا اليوم، فما أسعدنا حين نقبل بشرى ميلاد مخلّصنا، وما أجملَ أن تحمل الكنيسة سرَّ محبّته الفائقة إلى العالم على يد خدّامٍ مُرسَلين يبشّرون في العالم أجمع.
فلنُسْرِع إذاً لملاقاة نور الميلاد الذي أشرق في بيت لحم وبدّدَ ظلامَ الخطيئة والموت. فلنَخْرُج من صحراء غربتنا عن الله، ولنحمِل نور مصابيحنا ونُسرِع إليه لنراه ونسجد له ونرنّم، كما أسرع إليه الرعاة وعاينوه متعجّبين ومندهشين، وكما أتى الملوك – المجوس من الشرق وسجدوا له معترفين، وكما رنَّم الملائكة في السماء هاتفين: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر” (لو2: 14).
يتأمّل مار يعقوب السروجي حدثَ الميلاد العجيب للرب يسوع، مقارناً حلوله في السماء وسط الملائكة والجنود السماويين وسكناه على الأرض بين بني البشر: «ܝܰܘܣܶܦ ܩܰܪܺܝܒ ܘܰܓܢܶܐ ܒܓܶܦ̈ܶܐ ܣܪܳܦܳܐ ܡܶܢܳܟ܆ ܛܥܺܝܢܳܐ ܡܰܪܝܰܡ ܟܰܕ ܒܰܟܪ̈ܽܘܒܶܐ ܡܶܙܕܰܝܰܚ ܐܰܢ̱ܬ. ܠܥܶܠ ܐܶܢ ܚܳܐܰܪ ܗܰܘܢܳܐ ܒܬܶܗܪܳܐ ܗܳܐ ܬܰܡܳܢ ܐܰܢ̱ܬ܆ ܠܬܰܚܬ ܐܶܢ ܩܳܪܒܳܐ ܗܰܝܡܳܢܽܘܬܳܐ ܗܳܐ ܥܰܡܳܗ̇ ܐܰܢ̱ܬ. ܠܥܶܠ ܐܰܢ̱ܬ ܘܰܠܬܰܚܬ ܒܰܬܪܶܝܢ ܓܰܒ̈ܺܝܢ ܘܺܝܚܺܝܕܳܝܰܐ ܐܢ̱ܬ܆ ܘܗܳܐ ܡܰܪܟܰܒܬܳܐ ܘܟܰܪܣܳܐ ܕܡܰܪܝܰܡ ܡܰܠܝܳܐ ܡܶܢܳܟ… ܡܳܐ ܕܰܒܥܰܝܢܳܟ ܐܰܠܳܗܳܐ ܐܰܢ̱ܬ ܥܰܡ ܝܳܠܽܘܕܳܟ܆ ܘܡܳܐ ܕܶܐܫܟܰܚܢܳܟ ܒܰܪܢܳܫܳܐ ܐܰܢ̱ܬ ܥܰܡ ܝܳܠܶܕܬܳܟ». وترجمته: “يوسفُ قريبٌ، والساروفُ مُغطّى بالأجنحة (تهيُّباً) منكَ، مريمُ تحملُكَ، وأنتَ تُزيَّحُ بواسطة الشاروبيم. إن نظرَ العقلُ إلى الأعلى بانذهالٍ، فها أنتَ هناك، وإن اقتربَ الإيمانُ إلى الأسفل، فها أنتَ معه. أنتَ في الأعلى والأسفل، في الجانبَين، (ولكنَّكَ واحدٌ) وحيدٌ، وها المركبةُ (السماء) وبطنُ مريم مليئان منكَ… إذا طلبناكَ، فها أنتَ إلهٌ مع والدكَ، وإذا وجدناكَ، فها أنتَ ابن البشر مع والدتكَ” (من قصيدة عن أنّ ربّنا دُعِيَ اسمه “عجيباً”).
الله يكلّمنا اليوم وينطق فينا: في تفكيرنا، في كلامنا، في تصرّفاتنا، في سلوكنا، وفي علاقاتنا مع الناس المبنيَّة على المحبّة والاحترام. وهكذا تغدو حياتنا تعبيراً عن كلمة الله، ونصبح شعباً سلامياً يفعِّلُ حياتياً بشرى الميلاد، لأنَّ سلام الله ومحبَّته قد حلاّ فينا، فنحيا “القداسة التي بغيرها لا يرى أحدٌ الرب” (عب 12: 14).
سرّ التجسُّد يُنير سرّ الإنسان
سرّ التجسُّد حقيقة إلهية تنير سرّ الإنسان ومعنى حياته التائقة إلى السعادة في الحبّ والسلام، لأنَّ يسوع هو السلام الحقيقي الذي يحثُّنا على اكتشاف دعوتنا إلى المحبّة الصافية والمتجرِّدة، التي علينا أن نعيشها بالأخوّة والتعاون والتعاضد بين الأفراد والعائلات والمجتمعات. إنّها دعوة إلى ممارسة الإخلاص الصادق والمحبّة الفاعلة والحرّية البنّاءة، كأسس للحقوق الإنسانية للجميع، دون فرق في الجنس والعرق واللون والبيئة الجغرافية أو السياسية.
إنَّها المحبَّة التي عليها أن تسود في المجتمع وبين الأمم، فلا يشقى أحد من جراء الأنانية أو اللامبالاة. في المسيح نحن إخوة لجميع الناس. فلنتصالح ولنكسر حواجز الكراهية والعداوة، ولنكن رسل محبَّة وسلام، فتُولَد كلمة الله فينا… ليُولَد المسيح فينا. في طفل بيت لحم، يأتي الله للقائنا كي يجعل منّا أبطال الحياة التي يحنّ إليها جميعُ البشر. يُقدّم ذاته لنا كي نرفعه على أيدينا ونغمره حبّاً وإعجاباً، وبه نرفع ونغمر بحناننا العطشان والنزيل والعريان والمريض والمسجون (مت 25: 35-36)… “يدعونا الطفل الإلهي كي نحمل مسؤولية الرجاء، يدعونا كي نكون حرّاساً للكثيرين ممَّن وقعوا تحت ثقل الخيبة واليأس أمام الكثير من الأبواب المُغلَقة. في هذا الطفل، يجعلُ الله منّا أبطالَ ضيافته” (من موعظة قداسة البابا فرنسيس في قداس ليلة عيد الميلاد، الأحد 24 ديسمبر 2017).
كما يؤكّد قداسة البابا فرنسيس في رسالته بمناسبة اليوم العالمي السابع والخمسين للسلام لعام 2024، بعنوان “الذكاء الاصطناعي والسلام”، أنّ “السلام، في الواقع، هو ثمرة العلاقات التي تعترف بالآخرين وتقبلهم في كرامتهم غير القابلة للمساومة، وهو ثمرة التعاون والالتزام في السعي لتحقيق التنمية المتكاملة لجميع الأشخاص وجميع الشعوب”.
صدى العيد في عالمنا اليوم
يحتاج عالمنا اليوم، وخاصّةً شرقنا، إلى الرجاء والسلام، أكثر من أيّ وقتٍ مضى. ففيما نحتفل بعيد الميلاد متأمّلين بسرّ التجسّد، ومندهشين بالله يكلّمنا بابنه الوحيد، يسوع – الإله المتأنّس الذي حلّ بيننا، وصار صغيراً، فقيراً وضعيفاً، لا يسعنا ألا أن نفكّر بالمآسي التي يعيشها شعبنا اليوم، لا سيّما سكّان الأراضي المقدَّسة، الذين فُرِضَتْ عليهم حربٌ مدمِّرة في غزّة، وارتدّتْ انعكاساتُها المريرة على المناطق المحيطة بها، وبشكل خاص على المناطق الحدودية في الجنوب اللبناني. إنها مآسٍ غيّبتْ بهجة العيد عن معظم بلدان شرقنا. ولا يمكننا إلا أن نعبّر للإخوة والأخوات هناك، وخصوصاً للأطفال وعائلاتهم، عن قربنا منهم ودعمنا الروحي لهم. إنّهم يدفعون ثمن الحرب الظالمة، مشتركين في معاناة أهل بيت لحم بمقتل أطفالهم. منذُ عشرات السنين لا يزالُ السلام غائباً في الأرض التي منها أشرق ملك السلام! إنّنا نناشد، مع الشرفاء في هذا العالم، جميعَ المعنيين من حكومات وشعوب، كي يعملوا بصدقٍ وجدّيةٍ على الوقف الفوري الكامل والشامل لإطلاق النار، وإدخال المساعدات الإنسانية والطبّية الواجبة للسكّان الذين يعانون جراء هذه الحرب.
وفي لبنان، حيث يعيش المواطنون أزمات اقتصادية متتالية منذ اندلاع ثورة 17 أكتوبر 2019 وما تلاها من أحداث، وتفشّي وباء كورونا، والتفجير الإرهابي لمرفأ بيروت والذي لا تزال التحقيقات القضائية فيه معطَّلة بسبب المنافع السياسية، بالإضافة إلى الفراغ في سدّة رئاسة الجمهورية، حيث تقوم فئة من السياسيين اللبنانيين بتعطيل الانتخابات الرئاسية عبر تمنُّعها دون مبرّر عن حضور الجلسات، ضاربةً عرض الحائط مصالح اللبنانيين وحاجتهم الماسّة للاستقرار السياسي والاقتصادي. وها هي هذه الفئة المتحكّمة بالوطن تحاول جاهدةً إحكام سيطرتها على مفاصل الدولة والاستمرار بالسياق عينه في ضرب كلّ المؤسّسات الدستورية، من رئاسة الجمهورية، إلى حاكميّة مصرف لبنان، وتعطيل عمل القضاء، وصولاً إلى قيادة الجيش وقيادات الأجهزة الأمنية والعسكرية، إلى أن جَهِدَ المخلصون أخيراً، فحكّموا ضميرهم وتفادوا وقوع الفراغ فيها.
من هنا ندعو كلّ أبنائنا وبناتنا وجميع اللبنانيين المؤمنين بهذا الوطن وبالرسالة التي يحملها، أن يرفضوا الاستسلام. وليكن زمن ميلاد الرب يسوع زمنَ الخلاص للبنان من أزماته، وليحمل العام الجديد 2024 الأمل بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، واستكمال السلطة التنفيذية باختيار مَن يحملون هموم الوطن ومصالحه في عقولهم وقلوبهم، ليعملوا على انتشال لبنان من كبوته، وإعادته إلى مصافّ الدول المزدهرة والمتطوّرة.
في سوريا، نصلّي كي تثمر الجهود الدولية والديبلوماسية رفعَ العقوبات المفروضة وإنهاءَ الصراع القائم منذ أكثر من اثني عشر عاماً، وتفضي إلى تسوية تنهي التنافس والنزاع في سوريا كما في المنطقة في مجالاتٍ عدّة. فتنعكس على الشعب السوري الطامح إلى الحرّية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية، ويعود مَن غادر أو تهجّر، ولا سيّما الشباب، ليُسهم، مع الذين تعالوا على النكبة وصمدوا متجذّرين في أرضهم، في خلق الثقة وتعزيز الوحدة والمصالحة بين جميع مكوّنات الوطن، والمشاركة بإعادة بناء ما تهدّم. نسأل الرب يسوع أن ينعم، بجاه ميلاده، على هذا البلد بالأمان، فيؤول الاستقرار الأمني إلى استقرار سياسي واقتصادي واجتماعي، لا سيّما بعد الآثار التي نتجت عن الزلزال المدمّر الذي أصاب أجزاءً من البلد في فبراير الماضي.
وفي العراق، لا تغيب عن بالنا الفاجعة المريعة التي راح ضحيّتها 133 شخصاً من أبنائنا وبناتنا الأعزّاء، في قره قوش (بغديدة) الحبيبة، فضلاً عن إصابة مئات الآخرين. ولنا الثقة ألا تزعزع هذه النكبة ثباتنا في إيماننا، بل على الآلام المريرة أن تزيدنا رسوخاً في أرض آبائنا وأجدادنا، وتقوّي رجاءنا فوق كلّ رجاء. لذا نجدّد تضامننا الأبوي وقربنا وصلاتنا من أجل راحة نفوس الضحايا وتعزية عائلاتهم وأهلهم وذويهم وبلسمة جراحهم. كما لا ننسى التحدّيات الكثيرة التي يجابهها الشعب العراقي إزاء الأزمات السياسية والاقتصادية التي خلّفَتْها الصراعات، ونضرع إلى الرب يسوع أن يحمل بميلاده الطمأنينة والأمان لجميع المواطنين، فيشاركوا مع المسؤولين الأصلاء في مشروع نهضة العراق الحضارية وبنائه بشراً وحجراً، وصولاً للاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي.
وفي مصر، نهنّئ جميع المواطنين بإعادة انتخاب فخامة رئيس الجمهورية، ونصلّي كي تحمل نتائج الانتخابات أملاً بتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي للشعب المصري في ظلّ التضخّم الحاصل.
والأردن، وبلدان الخليج العربي، التي نعرب عن ارتياحنا لما تقوم به السلطات في هذه البلدان العزيزة لتأمين الرخاء والازدهار للشعب، في جوٍّ من الألفة والمودّة والتسامح.
وتركيا، حيث نتابع مع أبنائنا الغيارى المساعي لاستعادة مقرّ بطريركيتنا في ماردين، نصلّي كي يستمرّ أبناؤنا في أداء شهادتهم للرب في هذا البلد، بالعيش الكريم والمواطنة الكاملة.
ونتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا في بلاد الانتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، ونحثّهم على عيش إيمانهم بالرب يسوع، ومتابعة التزامهم الكنسي، بالأمانة لكنيستهم السريانية وتراثهم السرياني الثمين وتقاليدهم الأصيلة التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم في أوطانهم الأمّ في الشرق، مع المحبّة والإخلاص لأوطانهم الجديدة التي فتحت لهم آفاق العيش الكريم والحرّ. ونوصيهم أن يحافظوا على قدسيّة العائلة، ويربّوا أولادهم تربيةً مسيحيةً صالحةً، رغم المخاطر والتحدّيات والمغريات.
كما نحثّهم على القيام بأعمالٍ ومبادرات محبّةٍ يمليها عليهم حسّهم الأخوي وانتماؤهم العائلي والكنسي، فيساهموا قدر استطاعتهم في دعم الكنيسة والمؤمنين في بلاد الشرق، حيث تكبر المعاناة، وتتفاقم التحدّيات، وتزداد الحاجات المادّية، متذكّرين ما جاء في سفر أعمال الرسل: “فعزمَ التلاميذ أن يُرسلوا حسبما يتيسّرُ لكلّ واحدٍ منهم، إسعافاً للإخوة المُقيمين في اليهودية”(أعمال 11: 29).
ولا ننسى أن نجدّد صلاتنا إلى الرب يسوع، المولود طفلاً في مذود بيت لحم، من أجل انتهاء الحرب بين أوكرانيا وروسيا، وحلّ كلّ نزاع في العالم بالحوار والتفاوض والتفاهم، والتوقّف عن سفك الدماء وتدمير البشر والحجر.
كما نجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء، ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء التامّ. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله أن يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السماوية.
خاتمة
هلمّوا نهرع إلى بيت لحم، فنتأمّل الرب يسوع طفلاً موضوعاً في المذود، ونعيش حدث الميلاد العجيب، حيث يكلّمنا الله بابنه الوحيد. ولنوقظ في ذواتنا الحنين إلى الصمت والصلاة، وسط حياتنا اليومية التي غالباً ما تكون صاخبة. فلنَصْمُتْ ونتأمّل ونصلِّ خاشعين، ولنذكرْ إخوةً وأخواتٍ حُرِموا بهجة العيد، بسبب ما يقاسونه من هول الحروب والمآسي والاضطهادات. وإلى الآب السماوي نضرع، كي يبارك الكنيسة الجامعة بِنِعَمِ الميلاد، فتتابع مسيرتها السينودسية التي ستقودنا إلى الدورة الثانية من الجمعية العامّة السادسة عشرة لسينودس الأساقفة الروماني، والتي ستُعقَد في تشرين الأول القادم 2024 بعنوان: “من أجل كنيسةٍ سينودسية: شركة ومشاركة ورسالة”. فلنثقْ بأنّ المسيح قريبٌ منّا، تعالوا لنسجد له.
وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين. كلّ عام وأنتم بألف خير.
ܡܫܺܝܚܳܐ ܐܶܬܺܝܠܶܕ… ܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ وُلِدَ المسيح! هللويا!