Uncategorized

رسالة بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بمناسبة عيد الميلاد المجيد ٢٠٢٢

بعنوان: “الله الكلمة يتجسّد في عائلة”

إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الاحترام وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل، وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرب اللائذين بالكرسي البطريركي الأنطاكي في لبنان وبلاد الشرق وعالم الانتشار، نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالرب يسوع، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات: “الله الكلمة يتجسّد في عائلة” “أسرع الرعاة إلى بيت لحم، فوجدوا مريم ويوسف والطفل يسوع مضجَعاً في مذود” (لو2: 16)

بقلبٍ ملؤه الشوق والمحبّة، وفي مطلع رسالتنا الميلادية هذه، نتقدّم بأحرّ التهاني القلبية مع الأدعية الأبوية، بمناسبة عيد ميلاد ربّنا يسوع المسيح بالجسد وحلول العام الجديد 2023، إلى جميع إخوتنا رؤساء الأساقفة والأساقفة الأجلاء آباء السينودس المقدس لكنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، وأبنائنا وبناتنا المؤمنين، في لبنان وسوريا والعراق والخليج العربي والأراضي المقدّسة والأردن ومصر وتركيا وأوروبا والأميركتين وأستراليا.

وإلى الطفل الإلهي مولود بيت لحم نبتهل ضارعين كي يفيض علينا وهذا العالم كلّه غنى مواهبه ونِعَمِه وعطاياه، ويمنّ علينا وعلى بلداننا بالأمن والسلام والنجاة من الأوبئة والأمراض والمِحَن والشدائد، ويبثّ في قلوبنا الرجاء الذي أعلنه الملائكة يوم ميلاده العجيب، ويمنح البشرية عاماً جديداً ملؤه الخير والبركة والأمان. فينعم جميع الناس بالطمأنينة والاستقرار، والصحّة والعافية نفساً وجسداً، ويعمّ الفرح الروحي والوحدة والمحبّة والألفة في العائلات والمجتمعات والأوطان.

لم يأتِ أحدٌ إلى العالم بطريقةٍ سحريةٍ، كما في القصص والأساطير، بل كلّ فردٍ منّا له قصّته. والعائلة هي القصّة التي أتَيْنا منها. هي العطيةُ الكبيرةُ التي أعطاها الرب منذ البدء للعالم، مذ أوكل إلى آدم وحوّاء مهمّة أن يكثرا ويملآ الأرض (را. تك١: ٢٨). والله يعطينا الآباء والأمّهات ليعلّمونا المبادئ والقِيَم الصالحة، حتّى نتمكّن من العيش بحسب هذه التعاليم في هذا العالم المليء بالتناقضات. ويسوع، اللهُ المخلِّص، هو أيضاً ابن عائلة، لها قصّة.

شاء الله، أبو المراحم، أن يخلّصنا من خطايانا ويعيدنا إلى محبّته، فخطّط لابنه الوحيد، كلمته الأزلي، كي يولد في عائلةٍ أيضاً. فحبلت به مريم العذراء المخطوبة ليوسف، دون زرعٍ بشري، إنّما بنعمةٍ من الروح القدس. تجسّد يسوع، في الفقر والتواضع، مُخْلِياً ذاته، ومتّخذاً صورة عبدٍ (فل2: 7)، وهو الإنسان – الإله المسيح المنتظَر، الذي شابهنا في كلّ شيءٍ (عب2: 17) ما عدا الخطيئة (رو8: 3؛ 2كور5: 21). حلَّ في عائلةٍ مكوَّنةٍ من أبٍ مربٍّ ومن أمٍّ بتول احتضناه واهتمّا برعايته وتعليمه، فكان مطيعاً لهما، ينمو بالقامة والحكمة والنعمة أمام الله والناس (لو2: 52). لقد آمنتْ مريم ويوسف خطّيبها بكلام الله، وفَعَلا كلّ ما أمرهما به، وبذلك أضحت عائلة الناصرة المقدّسة مثالاً لكلّ عائلةٍ مسيحيةٍ تعمل على تحقيق دعوتها المقدّسة التي دعاها إليها الله من خلال سرّ الزواج المقدّس. عندما نصلّي إلى العائلة المقدّسة، يسوع ومريم ويوسف، تتبارك عائلاتنا بكلّ نعمةٍ تحتاج إليها.

ينشد أحد الآباء السريان شاكراً الله الآب ومريم وبيت لحم على إتمام مخطَّط الخلاص الذي شمل البشرية بأسرها: “من الآب أشرق لنا ربٌّ، ومن ابنة داود مخلّصٌ، ومن بيتَ لحمَ خبزُ الحياة للشعوب التي آمنت به. السجود للآب الذي أرسل ابنه، مباركةٌ هي مريم التي ولدَتْه، وطوبى للكنيسة التي قبلَتْه وها هي ترنّم المجد”

“أسرع الرعاة إلى بيت لحم، فوجدوا مريم ويوسف والطفل يسوع مضجَعاً في مذود” (لو2: 16). لنتأمّل سويّاً هذا المشهد العجيب! كيف أنّ الرعاة، وهم مُسرعون لينظروا ما بشّرهم به ملاك الربّ، يَصِلُون ويَرَون ابنَ الله، الذي “به كان كلّ شيءٍ وبدونه ما كان شيءٌ ممّا كان” (يو1: 3)، موضوعاً في مذود. كانت أمّه قد وضعَتْه هناك بعد أن لفَّتْه بالأقمطة، طفلاً يَنعمُ بحنان عائلته رغم الفقر الذي يحيط بالمكان. لقد كان الرعاة أفقرَ الفقراء، ولكنّ الآب السماوي أنعَمَ عليهم أن يكونوا أول من يرى “خلاص الله”. فسبَّحوه ومجَّدوه على هذه العطية (لو2: 20)، وبعدها أصبحوا أول من يحمل بشرى ولادة المخلّص إلى من حولهم (را. لو2: 17-18)، وأول من يتأمّل بجمال عائلة الناصرة المقدّسة.

يتغنّى مار يعقوب السروجي بميلاد الرب يسوع المخلّص في عائلة مريم ويوسف ببيت لحم أفراثه: “حملت الفتاة (أي مريم) ربّ الملوك في حشاها النقي، وسارت صاعدةً مع يوسف إلى أفراثه (أي بيت لحم). وإذ وصل الملك (أي يسوع وهو جنين) إلى مكانه، عرف موضعه، وتهيّأ كي يأتي ويدخل مقرّ .

ويلفت قداسة البابا فرنسيس إلى أهمّية ولادة يسوع في عائلةٍ، مشيراً إلى هذا الجانب من التجسّد بعمقٍ أكبر: “فيسوعُ قد وُلِدَ في عائلة… لقد كان باستطاعته أن يأتي كشعاعٍ أو كانعكاسٍ، كمُحاربٍ أو كإمبراطور… ولكنّه يأتي كابنٍ في عائلة. وهذا أمرٌ بالغ الأهمّية” (البابا فرنسيس، المقابلة العامَّة، الأربعاء 17 كانون الأول 2014).

عام 2019، وضمن فعاليات المؤتمر العالمي الثالث عشر للعائلات، والذي عُقِدَ في مدينة فيرونا – إيطاليا، كنّا قد ألقَيْنا محاضرةً بعنوان “العائلة المسيحية تواجه تهديداتٍ وتحدّيات”. تحدّثنا فيها عن التهديدات التي تتعرّض لها العائلة، تلك الخليّة الحيويّة الأولى للمجتمع الإنساني والكنيسة البيتيّة، والتحدّيات التي يواجهها الأهل وأولادهم في أيّامنا هذه، وهم يحاولون عيش دعوتهم المسيحية. وسلّطنا الضوء على ما يقلق اليوم بشكلٍ خاصّ، وهو أنّ هناك عدداً بدأ ينمو باطّرادٍ من الشباب الذين يختارون أن يعيشوا المساكنة، لتجنُّب رباط علاقة الحبّ المشتركة والخلّاقة من خلال سرّ الزواج. كما أنّنا تكلّمنا بوضوح: “إنّ الأولاد ليسوا لعبةً بيد الكبار، بل يحتاجون إلى أبٍ وأمٍّ، كي ينموا ويحقّقوا شخصيتهم الإنسانية”.

هنا علينا ألا ننسى أنّ الأسس الأوّلية للعائلة تكمن وتتجلّى في الكتاب المقدّس وتعليم الكنيسة وفي المبادئ القانونية الدولية والقانون الطبيعي، فالعائلة هي الوحدة الاجتماعية التي تقتضي اتّحاداً حرّاً ومتكاملاً بين رجلٍ وامرأة. وعلى العائلة المسيحية أن تكون رائدةً، معلّمةً ومبشّرة. رائدة، تُتَمِّم مسؤوليتها في المشاركة بالحبّ الخلّاق لله. معلّمة، تلتزم بمرافقة الأولاد وتثقيفهم، بالأمانة الحقّة للإنجيل، وبالدفاع عن القِيَم المسيحية والثقافية والحضارية، وبالحفاظ على الحقّ البديهي للأولاد أن ينشأوا في كنف أبٍ وأمّ. ومبشّرة، تشهد للربّ يسوع بالفكر والكلام والعمل، وتنشر بشارته ورسالته السامية بين الناس أجمعين، إذ أنّ مِن حقّ الجميع التعرّف على يسوع كمخلّصٍ شخصي لهم، لأنّه جاء إلى العالم من أجل خلاص الناس أجمعين.

 5 مفهوم التجسّد الإلهي

يقدّم التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (عدد460) نظرةً ثاقبةً وقيّمةً حول أهمّية التجسّد الإلهي الخلاصي: “صار الكلمة جسداً لكي يجعلنا “شركاء في الطبيعة الإلهية” (2بط1: 4): أي “… لكي يصيرَ الإنسان ابن الله بدخوله في الشركة مع الكلمة (كلمته الأزلي)، وهكذا ينال البنوّة الإلهية”. فـ “ابن الله صار إنساناً لكي يصيّرنا آلهة”. “ابن الله الوحيد، إذ أراد أن نشاركه في ألوهيته، لبِسَ طبيعتنا، حتّى إذا صار هو بشراً، يصير البشر آلهة”.

يترنّم آباؤنا السريان بالفرح العظيم الذي عمّ بتجسّد الرب يسوع مولوداً في مذود بيت لحم: “فرحت مريم التي ولدَتْه، وابتهجت المغارة التي قبلَتْه، وسُرَّ المذود الذي استحقّ أن يكرمه. فرح الرعاة هناك إذ عاينوا تسبيح الملائكة الذين انحدروا إليه (أي نحو الطفل الإلهي) من العلى إلى العمق. أُسْعِدَت السماء والأرض بالمولود الذي سالم البرايا، هللويا مباركٌ ولدكِ يا مريم”.

في عيد الميلاد، نحتفل بعائلةٍ وحّدها المولود الإلهي العجيب. لقد أصبح الله إنساناً ليحطّم كلّ انقسامٍ بيننا وبينه. أصبح جزءاً من عائلةٍ، واختبر الحياة الإنسانية بكلّ أبعادها، من فرحٍ وألمٍ وحزنٍ، ومن نجاحٍ وإحباطٍ بين مَن اعترف بفضله ومَن أنكره وخانه، فمنحَنا الفرصة للدخول في شركةٍ معه.لقد أوضح لنا بالقدوة كيف نكون بشراً بالكامل، حتّى نتمكّن من اتّباع مثاله، فنشاركه في طبيعته الإلهية كأعضاءٍ متَّحدين في جسده السرّي.

إذا كان يسوع مثالُنا قد عاش الحياة العائلية على أكمل وجهٍ، فيجب أن تكون عائلاتنا متمثّلةً بعائلته المقدّسة. لذا علينا، في عيد الميلاد، أن نعطي المزيد من الوقت للاهتمام بعائلاتنا، كي تشهد للإيمان والقِيَم الإنجيلية، كون العائلة هي حقّاً “كنيسة بيتيّة”.

 6 عائلاتٌ مقدّسةٌ في عالم اليوم

تستطيع كلّ عائلةٍ مسيحيةٍ، إذ تفتح قلبها ويوميّاتها وبيتها للربّ، أن تستقبل يسوعَ وتصغي إليه وتكلّمه، كي يباركها ويحميها من الضلال في طرق الحياة الوعرة، فتنمو معه لتجعل العالمَ أفضل. هكذا فعل أيضاً يوسف ومريم، ولم يكن الأمر سهلاً: كم مِن الصعوبات وجبَ عليهما تخطّيها!.يقول البابا القديس يوحنّا بولس الثاني: “من خلال تصميم الله الخلاصي، قضى ابن الله سنواتٍ طويلةً من الحياة الخفيّة في تلك العائلة. لذلك فهو النموذج الأول والمثال لجميع العائلات المسيحية. مرَّت حياته في صمتٍ في بلدةٍ صغيرةٍ في فلسطين. لقد عاشت هذه العائلة مختلف أنواع المِحَن، مِن فقرٍ واضطهادٍ ونفي، ومجَّدت الله بطريقةٍ ساميةٍ ونقيةٍ لا مثيل لها. وهي لن تفشل في مساعدة جميع العائلات في العالم على أن يكونوا أمناء لواجباتهم اليومية، وأن يتحمّلوا هموم الحياة ومِحَنَها، وأن يكونوا منفتحين وأسخياء على احتياجات الآخرين، وأن يتمّموا بفرحٍ ما يدبّره الله من أجلهم” (الإرشاد الرسولي: “الرباط العائلي”، في دور العائلة المسيحية في العالم الحديث، 22 تشرين الثاني 1981، عدد 86).

إنَّ عائلة الناصرة تدعونا إلى إعادة اكتشاف دعوة العائلة ورسالتها وإلى أن نجعل الحبَّ سائداً، لا الحقد، وأن نجعل المساعدةَ المتبادَلَةَ أمراً مألوفاً يرفضُ عدم المبالاة أو العداوة.

لقد جئنا جميعاً إلى هذه الحياة ثمرة حبٍّ جمع بين والدينا، والإنسان الذي نحن عليه اليوم لم يُولَد من الخيرات المادّية التي قُدِّمت لنا، بل ممّا نَعِمْنا به من المحبّة والحنان في حضن عائلاتنا. ربّما لم نولد في عائلةٍ استثنائيةٍ وخاليةٍ من المشاكل، لكنّ هذه هي حياتنا وجذورنا: إذا قطعناها، تجفّ الحياة!.

 7 صدى العيد في عالمنا اليوم

بعد مضيّ أكثر من ألفي عام على تواضُع الربّ وتجسُّده في عائلةٍ ليعلّمنا جوهر العائلة وأهمّيتها كي يعيش أفرادها أواصر المحبّة والوداعة والتسامح فيما بينهم، لا تزال عائلاتٌ كثيرةٌ وأوطانٌ عديدةٌ تعاني من التمزّق والتشرّد بسبب الحروب العبثية والصراعات والفساد، حيث كرامة الإنسان وحقوقه المدنية والدينية مغيَّبة، ممّا ساهم في ازدياد هجرة أبنائنا وبناتنا الذين أُرغِموا على ترك أرض آبائهم وأجدادهم في الشرق، فتشتّتت عائلاتنا في أصقاع المعمورة كلّها.

في لبنان، وكأنّما التاريخ يعيد نفسه عند كلّ استحقاقٍ يتعلّق بانتخابات رئاسة الجمهورية، وهي الموقع الأول والوحيد للمسيحيين في العالم العربي برمّته، إذ يتكرّر تعطيل انتخاب الرئيس تحت حججٍ ومبرّراتٍ واهيةٍ وغير مقنعةٍ، ولا تزال تسبّب مزيداً من الدمار في هيكلية الدولة، وإضعافاً للمؤسّسات، وإحباطاً لثقة المواطنين، لا سيّما فئة الشباب.

كنّا قد شجّعنا أولادنا واللبنانيين عامّةً على المشاركة في الانتخابات النيابية والمساهمة في تغيير الطبقة الحاكمة بغية النهوض بالبلاد، وَنَبَّهْنا من مغبّة عدم انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية في المواعيد الدستورية. غير أنّ الطبقة السياسية ذاتها التي عطّلت الإنتخاب سابقاً تعاود الكرّة اليوم، طمعاً بالتسلُّط وإقصاءً للصوت المسيحي ذي الوطنية الحقّة. هذه الفئة المتسلّطة هي غير آبهةٍ بعذابات المواطنين ومآسيهم، ولا بالأزمة الاقتصادية المخيفة، ولا بالتدهور الجنوني في سعر صرف الليرة اللبنانية، فضلاً عن استمرار حجز أموال المودعين في المصارف، وتعدُّد أسعار صرف الليرة قياساً بالعملات الأجنبية، دون أيّ بوادر حلٍّ يلوح في الأفق لانتهاء هذه الأزمة مع كلّ تداعياتها الاجتماعية والسياسية والتربوية.

فلبنانُ، أمس الحضارة، لبنان المدرسة والجامعة والمستشفى، بات اليومَ لبنانَ الظلام والفقر والهجرة، مهدَّداً بوجوده. وإن لم يرعوِ الذين يتولّون المسؤولية فيه ويتوقّفوا عن تعطيل الحياة السياسية وعن حماية الفاسدين والسارقين، فسيحاسبهم شعبهم بجرم الخيانة العظمى، وسينبذهم التاريخ.

ولا ننسى المطالبةَ المستمرّة بوجوب التوقّف عن تعطيل التحقيقات القضائية النزيهة في تفجير مرفأ بيروت الإجرامي، والمباشرة بمحاكمة المرتكبين ومحاسبتهم، كائناً من كانوا، لأنّهم فجّروا مدينةً وقتلوا شعبها ودمّروا إرثها الحضاري والثقافي.

إنّنا نضرع إلى الرب كي يقيم هذا البلد من كبوته، ونجدّد مطالبتنا بوجوب انتخاب رئيسٍ للجمهورية يتحلّى بالمناقبية، وحسّ المسؤولية الوطنية، وجرأة اتّخاذ القرار. فيتولّى إدارة شؤون البلاد، وينتشلها من وهدة الفساد الذي يتآكلها، ومن قعر الأزمات التي تتخبّط بها. فتعود الثقة بالدولة والمؤسّسات إلى اللبنانيين وإلى أصدقاء لبنان عربياً ودولياً.

وسوريا التي لا تزال تعاني، جرّاء العنف والفوضى والعقوبات الجائرة على شعبها المنهَك، أوضاعاً مخيفةً من التدهور الاقتصادي الحادّ، وازدياد الهجرة بين صفوف الفئات الشابّة، تحتاج اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، إلى تضامن ذوي الإرادة الصالحة كي يحلّ الأمن والسلام ويعود الاستقرار إلى ربوعها كافةً. إلى الرب نتضرّع كي يحمي هذا البلد الحبيب، ويعضد جميع المواطنين، فيعملوا سويّاً من أجل النهوض بوطنهم من جديد وإعادة بنائه.

والعراق، الذي تضع حكومته الجديدة في سلّم أولوياتها مكافحة الفساد والمحسوبيات، وإعادة الإعمار، وتلبية الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية للموطنين. من أجله نرفع إلى الرب صلاتنا كي تتمكّن هذه الحكومة من القيام بمهامّها، بما يسهم في تقدُّم هذا البلد العزيز الذي عانى من الحروب والنزاعات والدمار خلال العقود الثلاثة المنصرمة، وذلك بتضافُر جهود جميع المواطنين، فيعود بلد الرافدين إلى سابق عهده من التطوّر والازدهار.

وتركيا، التي قمنا مؤخّراً بزيارة حجٍّ فيها، شوقاً إلى أرض آبائنا وأجدادنا، نبارك غيرة أولادنا وجهودهم في ترميم دير مار أفرام في ماردين، ومساعيهم كي نستعيد مقرّ بطريركيتنا هناك، شهادةً على حضورنا السرياني التاريخي في هذه البقعة الغالية من العالم. كما نسأل الله أن يمنّ على جميع المواطنين بنعمة العيش الكريم في حقوق المواطنة الكاملة، كما أكّدها لنا رئيس البلاد لدى لقائنا التاريخي معه في العاصمة أنقرة.

والأراضي المقدسة، حيث لا تزال أعمال العنف تندلع بين الحين والآخر، ندعو إلى إحلال السلام والأمان في هذه الأرض التي تباركت بميلاد الرب يسوع وإعلانه تدبيره الخلاصي فيها.

ومصر، والأردن، وبلدان الخليج العربي، التي نعرب عن ارتياحنا لما تقوم به السلطات في هذه البلدان العزيزة لتأمين الرخاء والازدهار للشعب، في جوٍّ من الألفة والمودّة والتسامح.

ونتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا في بلاد الانتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، ونشجّعهم على محبّة أوطانهم الجديدة، والسعي الجادّ إلى تربية أولادهم، والحفاظ على وحدة عائلاتهم، رغم المخاطر والتحدّيات الجمّة. كما نذكّرهم بضرورة المحافظة على الأمانة لبلدانهم الأمّ في الشرق، ثابتين في الإيمان بالرب يسوع، وملتزمين بكنيستهم وبتقاليدهم الأصيلة وبتراثهم السرياني الثمين. فيبقى حضورنا شهادةً مُشعّةً وسط عالمنا المضطرب.

 وإنّنا نحثّهم على القيام بما يمكنهم من أعمالٍ ومبادرات محبّةٍ يمليها عليهم حسّهم الأخوي وانتماؤهم العائلي والكنسي، فيساهموا قدر استطاعتهم في دعم الكنيسة والمؤمنين في بلاد الشرق، حيث تكبر المعاناة، وتتفاقم التحدّيات، وتزداد الحاجات المادّية، متذكّرين ما جاء في سفر أعمال الرسل: “فعزمَ التلاميذ أن يُرسلوا حسبما يتيسّرُ لكلّ واحدٍ منهم، إسعافاً للإخوة المُقيمين في اليهودية” (أعمال 11: 29).

كما يهمّنا أن نشيد باعتزازٍ باللقاء التاريخي الذي شاركْنا فيه، في السادس عشر من ديسمبر الجاري، في المقرّ البطريركي للسريان الأرثوذكس في العطشانة – المتن، لبنان، وقد جمع بطاركةَ الكنائس ذات التراث السرياني: السريان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس والموارنة والكلدان والمشرق الآشوريون. لقد كان حقّاً لقاءً غنياً، أكّدنا فيه على أصالة الروحانية السريانية، وأهمّية الحضور السرياني في الشرق الأوسط وبلاد الانتشار، والشراكة في الشهادة، وغنى التراث السرياني المشترك، وضرورة إيلاء عنايةٍ خاصّةٍ بتعليم اللغة السريانية ونشرها والتعمّق بدراستها، وتعزيز التعاون، وإقامة المؤتمرات والندوات التي تُبرِز هذا التراث العريق. واتّفقنا على المضيّ قُدُماً في هذا اللقاء بشكلٍ سنوي.

وفي هذا الزمن الميلادي، وفيما نجد العالم من حولنا يتخبّط في الحروب والنزاعات، يؤكّد قداسة البابا فرنسيس في رسالته السنوية بمناسبة اليوم العالمي السادس والخمسين للسلام، بعنوان: “لا أحد يمكنه أن يخلص بمفرده، الانطلاق مجدَّداً من فيروس كورونا لكي نرسم معاً دروب سلام”، على أنّ: “وحده السلام الذي يولَد من الحبّ الأخوي والمتجرّد يمكنه أن يساعدنا في التغلّب على الأزمات الشخصية والاجتماعية والعالمية… أتمنّى أن نتمكّن في العام الجديد من أن نسير معاً ونكتنز ممّا يمكن للتاريخ أن يعلّمنا إيّاه… أتمنّى لجميع الرجال والنساء ذوي الإرادة الصالحة أن يبنوا يوماً بعد يومٍ، كصانعي سلامٍ، سنةً جديدة”.

وبهذه المناسبة، نجدّد صلاتنا بحرارةٍ إلى طفل بيتَ لحمَ الإلهي كي تتوقّف الحرب المستعرة بين أوكرانيا وروسيا، فيحلّ السلام والأمان، وتعود الألفة بين البلدين الجارين، ويسعى الشعبان إلى مصالحةٍ مبنيَّةٍ على الحقّ والمسامحة، إذ يكفي عالمَنا المزيد من الحروب وأعمال العنف والتدمير.

كما نجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء، ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء التامّ. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله أن يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السماوية.

هلمّوا نهرع إلى الربّ يسوع، فنشكره ونسأله، بشفاعة والدته مريم العذراء والقديس يوسف مربّيه، أن يقوّينا كي نجدّد عهدنا المطلق لصون العائلة المسيحية، وندافع عنها، لأنّها “الكنيسة البيتيّة”، إذ فيها يتربّى أولادها على المجاهرة بالإيمان بالرب يسوع والشهادة له، بشجاعةٍ وأمانةٍ على الدوام. لتقُد العائلة المقدّسة خطواتنا ثابتةً في السير متّحدين بالمحبّة والخدمة المتبادَلة، فالله لم يخلقنا لنكون مغامرين منفردين، بل لنسير معاً، لا سيّما ونحن نترافق مع الكنيسة الجامعة في هذه المسيرة السينودسية للوصول إلى سينودس الأساقفة الروماني الذي سيُعقد في تشرين الأول القادم 2023 بعنوان: “من أجل كنيسةٍ سينودسية: شركة ومشاركة وشهادة”.

وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد، آمين. كلّ عام وأنتم بألف خير.

وُلِدَ المسيح! هللويا!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى