يشكّل المجمع الفاتيكانيّ الثاني المفرق الرسميّ في موقف المسيحيّة الكاثوليكيّة من الديانة الإسلاميّة ومن المسلمين، وكان قد سبق ذلك رحلةٌ طويلةٌ شاقةٌ مصبوغةٌ أحيانًا باللون الورديّ الجميل أو باللون القاني الأحمر، وفقًا للظروف السياسيّة والاقتصادية والاجتماعية التي كانت تمرّ بها الأيّام.
فقد رسم هذا المجمع صورةً جديدةً مغايرةً بمثابة خارطة طريقٍ قائمةٍ على الانفتاح والاحترام، لا بل أكثر من ذلك صورةً كسرت النمط السابق وجعلت من المسلمين شركاء إيمان بالله الواحد وببعض معتقداته.
ورد في الدستور العقائديّ في الكنيسة: نور الأمم: Lumen Gentium، الصادر سنة 1964، كلامًا مرتكزًا على اعترافٍ واضحٍ بأنّ الإسلام دينٌ يؤمن بالإله ذاته الذي تؤمن الكنيسة الكاثوليكيّة به. هذا المعتقد يرتكز على الإيمان بأنّ إله الوحي التوحيديّ، إله إبراهيم وإسحق ويعقوب هو ذاته إله النبي محمد وأتباعه. يقول النص: “أمّا الذين لم يقبلوا الإنجيل بعد، فإنّهم متّجهون نحو شعب الله بطرقٍ شتّى. بادئ ذي بدء ذلك الشعب الذي اقتبل العهد والمواعيد، ومنه خرج المسيح بحسب الجسد (را. روم 9، 4- 5)؛ شعبٌ محبوبٌ من حيث الاختيار، من أجل الآباء، لأنّ مواهب الله ودعوته هي بلا ندامة (را. روم 11، 28- 29). ولكن تصميم الخلاص إنّما يشمل الذين يعترفون بالخالق، ومن بينهم أوّلاً المسلمون الذين يقرّون أنّ لهم إيمان إبراهيم، ويعبدون معنا الإله الواحد الرحيم، الذي سيدين البشر في اليوم الأخير.”
في نصٍّ ثانٍ من نصوص المجمع يتناول علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحيّة ويحمل صفة البيان، صدر عن البابا بولس السادس، سنة 1965، يحمل عنوان: في عصرنا Nostra Aetate، يقول: “وتنظر الكنيسة بعين الاعتبار أيضًا إلى المسلمين الذين يعبدون الإله الواحد الحيّ القيوم الرحيم الضابط الكلّ خالق السماء والأرض المكلّم البشر. ويجتهدون في أن يخضعوا بكلّيتهم حتى لأوامر الله الخفيّة، كما يخضع له إبراهيم الذي يُسند إليه بطيبة خاطرٍ الإيمان الإسلاميّ. وإنّهم يجلّون يسوع كنبيٍّ وإن لم يعترفوا به كإله، ويكرّمون مريم أمّه العذراء كما أنّهم يدعونها أحيانًا بتقوى. علاوةً على ذلك أنّهم ينتظرون يوم الدين عندما يثيب الله كلّ البشر القائمين من الموت؛ ويعتبرون أيضًا الحياة الأخلاقيّة ويؤدّون العبادة لله لا سيّما بالصلاة والزكاة والصوم. وإذا كانت قد نشأت، على مرّ القرون، منازعاتٌ وعداواتٌ كثيرةٌ بين المسيحيّين والمسلمين، فالمجمع المقدّس يحضّ الجميع على أن يتناسوا الماضي وينصرفوا بإخلاص الى التفاهم المتبادل، ويصونوا ويعزّزوا معًا العدالة الاجتماعيّة والخيور الأخلاقيّة والسلام والحرّيّة لفائدة جميع الناس.»
هذه النصوص واضحةٌ جدًّا من النظرة العقيديّة القائمة على واجب الاحترام للإسلام كمعتقد، والكنيسة تنظر بعين القدسيّة إلى الكائن البشري، وتدعو إلى احترامه بشكلٍ مطلقٍ باعتبار أنّ تجسّد المسيح منح قدسيّة لكلّ كائنٍ بشريٍّ ووحّد نفسه به. يقول نصّ الدستور الراعويّ في الكنيسة في عالم اليوم: فرح ورجاء: Gaudium et Spes، المنشور سنة 1968: “سمت الطبيعة البشريّة فينا، لمجرّد أنّه (المسيح) قد احتملها لا أنّها استغرقته، إلى كرامةٍ فوق المقارنة. فابن الله وحّد نفسه بواسطة التجسّد بطريقة معيّنة مع كلّ إنسان.”
وعودة إلى نصّ بيان علاقة الكنيسة بالديانات غير المسيحيّة، يقول النصّ في باب النظر إلى الكائن البشريّ باعتبار أنّ الناس كلّ الناس إخوةٌ للمسيحيّين استنادًا إلى أبوّة الله وفعل المحبّة، فعقيديًّا وأدبيًّا الناس إخوة مهما كان اعتقادهم. يقول النصّ: “لا نستطيع أن ندعو الله أبا الجميع إذا رفضنا أن نسلك أخويًّا تجاه الناس المخلوقين على صورة الله”. فعلاقة الإنسان بالله الآب وعلاقته بإخوته البشر مرتبطتان إلى حدٍّ أنّ الكتاب يقول: “إنّ من لا يحبّ لا يعرف الله” (1 يوحنا 4، 8). يقوّض بالتالي أساس كلّ نظريّةٍ أو تصرّفٍ يفرّق بين إنسانٍ وإنسان، وبين أمٍّة وأمّة، في ما يتعلّق بالكرامة الإنسانية وبالحقوق النابعة منها. “
هذه النصوص تشرح بوضوح واجب احترام المعتقدات، وكلّ مس بها، لاسيما حرق الكتب المقدّسة، إنّما هو مسٌ بالمقدّس المسيحيّ ذاته، من باب مسّها بما تؤمن به. نختم باستشهاد من النصّ عينه لنؤكّد كل احترامنا لمعتقدات الآخرين ومقدّساتهم، لاسيما المسلمين إخوتنا في الإيمان بإله إبراهيم واسحق ويعقوب: “فالكنيسة تشجب إذًا كمنافٍ لروح المسيح، كلّ تفرقةٍ أو جورٍ يلحق بالبشر بسبب عرقهم أو لونهم، وبسبب وضعهم أو ديانتهم. ومن ثمّ فالمجمع المقدّس، اذ يتتبّع خطى القدّيسَين الرسولَين بطرس وبولس يناشد المسيحيّين بحرارةٍ كي “يسيروا سيرة حسنة بين الأمم” (1 بطرس 2، 12) إن أمكن، ويعيشوا بسلامٍ مع جميع الناس بقدر ما يتعلّق ذلك بهم، بحيث يكونون حقًّا أبناء الآب الذي في السماوات.”
الأب الدكتور سميح رعد، أستاذ اللاهوت العقيدي والحوار الديني في معهد القديس نقولاوس للاهوت، ميتس، فرنسا؛ وأستاذ الفلسفة في معهد القديس بولس، حريصا ، لبنان
(المصدر جريدة النهار)