الرأفة المسيحيّة: بوصلة لفهم الأحداث في الأراضي المقدّسة
الأب الدكتور سميح رعد
أمام هول ما يحدث في الأراضي المقدّسة، منذ السابع من أكتوبر2023، كيف يمكننا عيش ما يحدث وفهمه بقلب مستنير؟ ماذا تعلمنا عقيدتنا المسيحيّة؟
أمام هذا العنف الخارجيّ والذي يندفع ليحتل داخلنا ويمزّقه ويلهب فؤادنا ويكويه بنار الغضب والحرب… لا أجد أمامي إلّا الرأفة، كجواب شعوريّ تجاه ما يحدث. نعم الرأفة. الرأفة التي تدعونا إلى أن نرى ما يجري بقلب جديد، بنظرة مغايرة. نظرة شبيهة بنظرة الطبيب للمكلوم المرمي أمامه على المشرحة؛ ويمينه الطبّيّ الذي قسمه يمنعه أن يرى فيه إلّا مكلومًا، ولا واجب أمامه إلّا مداواته. المداواة ولا شيء إلّا المداواة.. ويقتل فيه كل حسٍّ إلّا حس التعاطف لينجّيه بأقلّ ألمٍ ممكن.
نعم الرأفة هي الفضيلة التي تمثل بكليتها أمامنا كقيمة كبيرة مطلوبة اليوم، تتجاوز حدود العقل الإنساني.. وحدها التي تحثنا على استقبال آلم البشر جميعًا، بذات القدر من المحبة والمشاركة والتعاطف.
«فَلْيَكُنْ فِيكُمْ هذَا الْفِكْرُ الَّذِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فل 2: 5) هذا هو نموذجنا المسيحيّ وهذا هو نهجنا الفريد، الذي ربما يتعارض مع غرائزنا الطبيعيّة البشريّة الفطريّة التي تدفعنا إلى الغضب أو القسوة أو الانتقام. هذا النهج يذكرنا بأنّ كلّ فرد هو مخلوقٌ إلهيّ مقدّس، يستحقّ الحبّ. هذا الفرد هو إنسانٌ استحق مثلنا فداء المسيح… بغض النظر عن الظروف المحيطة والآنيّة.
«طُوبَى لِلرُّحَمَاءِ!» (متى 5: 7) هذا هو المنطق المسيحيّ. الرحمة هي العدالة في المسيحيّة. حتى عندما يدفعنا عقلنا ومنطقنا البشري ويشد بنا إلى التفتيش عن عدالة مغايرة، تأتي الرحمة والرأفة لتذكّرنا بشيء آخر، وهو هذا التحدّي: أنّ هذا الآخر مفديٌّ بالمسيح يسوع ويشكّل معنا الإنسانيّة المحبوبة منه.
الرأفة تحدٍ، لأنّها تطلب منا أن نرى كلّ إنسان كجزء من الكل: الجاني والضحيّة واحد بدون أي تمييز. القاتل والقتيل واحد. كلّ منهما يستحق منا نظرة واحدة غير مجزّأة هي نظرة الرأفة وبذات القدر وبذات الطاقة. حتى التعاطف يجب أن يكون بذات المنزلة. إنّها تذكّرنا بأن نملك قلب المسيح تجاه كلّ مخلوقٍ يعاني.
الرأفة المسيحيّة هي بوصلة المسيحيّة الثمينة لتوجيه رحلتنا في طريق الإنسانيّة التي تعيش في مخاضات متتالية وتحتاج إلى شفاءات متتالية… تحتاج إلى خلاص متجدّد ومتجذّر في الإنسانيّة المكلومة المشفيّة. إنّها تحثّنا اليوم، وأكثر من أيّ يومٍ مضى، على الاستجابة لآلام العالم بالمحبّة والتفهّم والرحمة، بما في قلب المسيح من عاطفة وفداء.
نعم الرأفة هي الفضيلة الإنسانيّة والمسيحيّة الأساسيّة وهي تمثّل تحديًّا لنا، وبوصلةٌ توجّه رحلتنا بشكلٍ مستنير، نحو فهم متجدّد للحياة ولغدٍ أفضل، أمام هول ما يحدث في الأراضي المقدّسة.
(جريدة النهار اللبنانية)