البابا فرنسيس: دوروثي داي، جمال الإيمان الذي يجد الله في الفقراء
“لقد وجدتُ الله من خلال فقرائه. من الإلحاد إلى الإيمان: مسيرتي الداخلية”، هذا عنوان كتاب أصدرته المكتبة ودار النشر الفاتيكانية هو السيرة الذاتية التي كتبتها الصحفية والكاتبة والناشطة دفاعاً عن الفقراء وضد التسلح ومن أجل العدالة الاجتماعية، الأمريكية دوروثي داي والتي أسست حركة العمال الكاثوليك.
وقد كتب مقدمة هذا الإصدار البابا فرنسيس وبدأ مشيرا إلى أن حياة دوروثي داي تشكل أحد الأدلة على ما أكد البابا بندكتس السادس عشر بقوة وما كررتُه أنا مرارا، قال البابا فرنسيس، أي أن الكنيسة تكبر بالجاذبية لا بالاقتناص. وتابع أن سرد دوروثي داي لوصولها إلى الإيمان المسيحي يوضح أنه ليست الجهود أو الخطط البشرية ما يُقرِّب الإنسان من الله بل النعمة النابعة من المحبة، الجمال النابع من الشهادة، الحب الذي يصبح ملموسا. وأضاف البابا فرنسيس أن قصة دوروثي داي الناشطة طوال حياتها لصالح العدالة الاجتماعية وحقوق الأشخاص، وخاصة الفقراء والعمال المستغَلين والمهمشين في المجتمع، والتي أُعلنت خادمة الله سنة ٢٠٠٠، هي شهادة لما كتب القديس يعقوب في رسالته: “أرِني إيمانك من غير أعمال، أُرِك أنا إيماني بأعمالي”.
هذا وأراد قداسة البابا التوقف في مقدمة الكتاب عند ثلاثة عناصر يبرزها سرد دوروثي داي لحياتها، مضيفا أن هذه العناصر الثلاثة تشكل تعليما مفيدا للجميع في زمننا، وهي عدم الارتياح والكنيسة والخدمة. وفي حديثه عن العنصر الأول ذكر البابا فرنسيس أن دوروثي داي كانت تشعر بعدم ارتياح وحين بدأت مسيرة اعتناق المسيحية كانت شابة لم تبلغ الثلاثين من العمر وكانت ترفض الطقوس الدينية. إلا أن بحثها الروحي المتنامي جعلها تنظر إلى الإيمان وإلى الله لا كسد فراغ، كما كتب أحد اللاهوتيين، بل كملء الحياة وهدف البحث عن السعادة. واستشهد الأب الأقدس هنا بمقطع من الكتاب تروي فيه دوروثي داي كيف كانت تتوجه إلى الله حين كانت وحيدة، مضيفة أن هذا لا يعني أن الخوف من الوحدة والألم هو ما دفعها إلى ذلك، بل لقد وجدت الله خلال سنوات الوحدة هذه من خلال الفرح والشكر. وتابع البابا فرنسيس مشددا على أن هذا يعلِّمنا أن الله ليس أداة للتعزية في اللحظات المريرة بل هو يملأ وبوفرة رغبتنا في الفرح وتحقيق الذات. الله يبحث عن القلوب غير المستريحة، قال البابا، وأضاف أن قراءة هذه الصفحات والتعرف على مسيرة دوروثي داي الدينية يمكن أن يعلِّمانا الاحتفاظ بصورة صحيحة عن الله.
وفي حديثه عن العنصر الثاني في الكتاب، أي الكنيسة، قال البابا فرنسيس إن دوروثي داي تتحدث بكلمات جميلة عن الكنيسة الكاثوليكية والتي كانت تبدو لها، كناشطة اجتماعية ونقابية، قريبة من الأغنياء، إلا أنه مع نمو التصاق دوروثي بحقيقة الإيمان تنامى أيضا التأمل في الطابع الإلهي للكنيسة الكاثوليكية وذلك لا انطلاقا من أمانة غير ناقدة أو من دفاع رسمي، بل من موقف نزيه ومستنير نجح في أن يرى في حياة الكنيسة رباطا لا ينفصل مع السر بعيدا عن السقطات الكثيرة المتكررة لأعضائها. وأشار الأب الأقدس هنا إلى مقطع آخر من الكتاب تؤكد فيه دوروثي داي أن الهجمات التي كانت تستهدف الكنيسة قد أثبتت لها ألوهيتها، ففقط مؤسسة إلهية يمكنها تجاوز خيانة يهوذا وإنكار بطرس وخطايا كثيرين يعلنون إيمانهم كان عليهم أن يعتنوا بالفقراء حسبما كتبت. وأشاد البابا فرنسيس بقدرة دوروثي داي كامرأة حرة على عدم إنكار الأخطاء إلا أنها ترى من جهة أخرى علاقة مباشرة للكنيسة مع الله، وذلك لأن الكنيسة هي كنيسة الله، لا كنيستنا، هو مَن أرادها، لا نحن، هي أداته وليست شيئا لنستفيد منه نحن، وهذه هي دعوة الكنيسة وهويتها.
ثم يتوقف البابا فرنسيس عند العنصر الثالث في سرد دوروثي داي ألا وهو الخدمة، وقال في هذا السياق إن داي قد خدمت الآخرين طوال حياتها وذلك حتى قبل أن تبلغ الإيمان بشكل كامل. وتابع أن استعداها من خلال عملها كصحفية وناشطة قد أصبح طريقا لمس من خلاله الله قلبها. وقد ذكرت هي في كتابها أن الكفاح من أجل العدالة هو إحدى الطرق التي يمكن أن يحقق من خلالها كل شخص، وذلك أيضا بدون وعي، حلم الله ببشرية متصالحة يغطي فيها عبق المحبة رائحة الأنانية المقززة. وعاد البابا مجددا إلى كلمات دوروثي داي حين أكدت على أن المحبة البشرية في أفضل أشكالها التي تنير أيامنا تجعلنا نرى محبة الله للإنسان، وأضافت أن المحبة هي أفضل ما يمكننا أن نعرف في هذه الحياة. وواصل البابا فرنسيس أن هذه الكلمات تُعلِّمنا شيئا مفيدا بالفعل اليوم، وهو أن المؤمنين وغير المؤمنين يصبحون متحالفين في تعزيز كرامة كل شخص حين يحبون ويخدمون أكثر المتروكين من الكائنات البشرية.
وفي ختام مقدمته للكتاب توقف البابا فرنسيس عند شعار الحركات الاجتماعية لصالح العمال الذي تنقله دوروثي داي في كتابها ألا وهو “مشكلة واحد هي مشكلة الجميع”. وقال قداسته إن هذا الشعار يُذكره بعبارة شهيرة للأب لورنسو ميلاني الذي يُحتفل هذا العام بالذكرة المائوية الأولى لولادته، حيث ذكر بطل كتاب له: “لقد تعلمتُ أن مشكلة الآخرين تعادل مشكلتي. الخروج منها معا هو سياسة، والخروج بمفردنا هو جشع”. وتابع البابا أن الخدمة يجب أن تصبح سياسة بمعنى اختيارات ملموسة كي تسود العدالة وتُحمى كرامة كل شخص. وختم قداسته أن دوروثي داي، التي أراد التذكير بها في حديثه في الكونغرس الأمريكي حلال زيارته الرسولية إلى الولايات المتحدة سنة ٢٠١٥، تقدم لنا التحفيز والمثل في هذه المسيرة الصعبة والجذابة.
(المصدر راديو الفاتيكان)