رحلة البابا إلى كندا.. البابا فرنسيس يلتقي الشعوب الأصلية وأعضاء الجماعة الرعوية في كنيسة القلب الأقدس في إدمونتون ويتحدث عن المصالحة
يواصل قداسة البابا فرنسيس زيارته الرسولية إلى كندا حيث التقى بعد ظهر الاثنين بالتوقيت المحلي الشعوب الأصلية وأعضاء الجماعة الرعوية في كنيسة قلب يسوع الأقدس في إدمونتون.
وأعرب الأب الأقدس في بداية حديثه عن سروره لكونه معهم وأن يرى من جديد وجوه الكثيرين من ممثلي السكان الأصليين الذين جاؤوا لزيارتي في روما قبل أشهر قليلة حسب ما قال قداسته، مضيفا أن هذه الزيارة قد عنت له الكثير.
وتابع: الآن أنا عندكم في بيتكم، صديقا وحاجا في أرضكم، في بيت الله الذي تجتمعون فيه إخوة وأخوات، لتُسبحوا الله. وذكَّر قداسته بتأكيده خلال اللقاء بالسكان الأصليين في روما على أن مسيرة شفاء ناجعة تتطلب أعمالا ملموسة.
وواصل: يسرني أن أرى أن العمل بدأ في هذه الرعية، التي تجمع أشخاصا من جماعات مختلفة من الفيرست نيشين والميتيس والإنويت First Nations, Métis et Inuit، جنبا إلى جنب مع أشخاص من غير السكان الأصليين من الأحياء المحلية، والعديد من الإخوة والأخوات المهاجرين. هنا بيت للجميع، مفتوح وشامل الكل، تماما كما يجب أن تكون الكنيسة، عائلة أبناء الله حيث الضيافة والترحيب أمر أساسي، وهي القيم المميزة في ثقافة الشعوب الأصلية، وحيث يجب أن يشعر كل واحد أنه مرحَّب به، بغض النظر عن الأحداث الماضية وظروف الحياة الفردية.
كما وشكر البابا الجميع على قربهم من الكثير من الفقراء بصورة عملية من خلال أعمال المحبة، وذكَّر بأن هذا ما يريده يسوع الذي قال لنا “كلّما صنعتم شيئًا من ذلك لواحد من إخوتي هؤلاء الصّغار، فلي قد صنعتموه” (متّى 25، 40).
ثم أشار قداسة البابا إلى أنه في الكنيسة أيضا يختلط الزؤان مع القمح الجيد، وبسبب هذا الزؤان بالتحديد، قال قداسته، أردتُ أن أقوم بحج التوبة هذا. وذكَّر بأنه بدأ هذا صباحا بتذكر ما تعرض له السكان الأصليون على يد مسيحيين كثيرين، وبطلب المغفرة بألم.
وتابع مؤكدا ألمه حين يفكر في أن الكاثوليك ساهموا في سياسات الاستيعاب التي فرضت الإحساس بالدونية. كما وتحدث قداسته عن سلب الجماعات والأشخاص هوياتهم الثقافية والروحية وقطع جذورهم وتغذية تصرفات تقوم على الأحكام المسبقة والتفرقة.
كما وأعرب البابا فرنسيس عن الألم لكون هذا قد حدث باسم التربية التي يُفترض أنها مسيحية، وشدد على أن التربية يجب أن تنطلق دائما من احترام وتعزيز ما لدى الأشخاص من مواهب، ليست التربية أبدا ولا يمكن أن تكون شيئا يُفرض، قال البابا، لأنها مغامرة استكشاف مشترك لسر الحياة.
وأراد الأب الأقدس توجيه شكر خاص على العمل الذي قام به الأساقفة كي يتمكن من المجيء إلى هنا وكي تتمكنوا أنتم من المجيء إلى هنا، قال قداسته.
توقف البابا فرنسيس بعد ذلك عند المصالحة فقال إنه يريد تقاسم بعض التأملات حول هذه الكلمة. وواصل أن المصالحة التي صنعها يسوع لم تكن اتفاقية سلام خارجية، أي حل وسط من أجل إرضاء الجميع، كما ولم تكن سلاما نزل من السماء مفروضا من الأعلى أو مصالحة تهدف إلى المماثلة. وذكَّر الأب الأقدس بحديث بولس الرسول عن أن يسوع يصالح بالجمع، جاعلا من واقعين بعيدين واقعا واحدا، شيئا واحدا، شعبا واحدا، وذلك من خلال الصليب. يصالح يسوع بيننا من على الصليب، من شجرة الحياة حسب ما كان المسيحيون القدامى يحبون تسمية الصليب.
ثم تطرق البابا فرنسيس إلى من يحملون في داخلهم جراحا أليمة، وأضاف أنه يتخيل مشقة رؤية آفاق مصالحة لدى مَن عانى بشكل رهيب بسبب رجال ونساء كان عليهم أن يقدموا شهادة للحياة المسيحية.
وتحدث البابا عن أن لا شيء يمكنه أن يمحو الكرامة المنتهَكة أو السوء الذي تعرض له الشخص أو الثقة التي خُيبت، كما ويجب ألا تُمحى مشاعر الخجل لدينا نحن المؤمنين، ولكن يجب الانطلاق مجددا، ولهذا يقترح علينا يسوع لا كلمات، بل الصليب، تلك المحبة، الطريق الذي يجب اتباعه إذاً هو النظر معا إلى المسيح، المحبة التي صُلبت من أجلنا، النظر إلى يسوع الذي صُلب في الكثير من طلاب المدارس الداخلية، قال البابا فرنسيس.
وتابع قداسته أننا إن أردنا مصالحة بالفعل فلنرفع نظرتنا إلى يسوع المصلوب، فعلى شجرة الصليب يتحول الألم إلى محبة، الموت إلى حياة، وخيبة الأمل إلى رجاء. وشدد على أن المصالحة هبة تنبع من المسيح المصلوب، سلام يأتي من قلب يسوع، نعمة يجب أن نطلبها.
تحدث الأب الأقدس بعد ذلك عن جانب آخر للمصالحة مذكرا بحديث بولس الرسول عن أن يسوع قد صالحنا، بواسطة الصليب، في جسد واحد، وتابع البابا أن هذا الجسد هو الكنيسة، إنها جسد المصالحة الحي، ولكن عندما نفكر في الألم الذي اختبره كثيرون في المدارس الداخلية فلا يمكن إلا أن نشعر بالخجل، قال البابا مشيرا إلى أن هذا حدث حين ترك المؤمنون أنفسهم ليصبحوا دنيويين، فبدلا من العمل من أجل المصالحة فرضوا نموذجهم الثقافي.
وذكَّر البابا هنا بأن الله لا يفعل هذا، لا يفرض ولا يخنق ولا يظلم، بل يحرر ويترك الأشخاص أحرارا. وشدد البابا فرنسيس على ضرورة ألا تتكرر مثل هذه الأمور في الكنيسة، ألا يتكرر أن يكون هناك مَن يفكرون في أنفسهم بدون التفكير في الآخرين، فليعلَن يسوع بالشكل الذي يريده، قال البابا، بالحرية والمحبة. وتابع: فلّا يكن كل شخص مصلوب نلقاه حالة يجب حلها، بل ليكن أخا أو أختا يجب أن نحبه أو نحبها.
وفي ختام حديثه ذكَّر البابا فرنسيس بأهمية السير معا، وبأن الله يسير معنا ويحب أن يلتقي بنا معا، الله هو إله قرب، ويعلمنا في يسوع لغة الشفقة والحنان. وأضاف أن الله يسكن كنيستنا ويريدها أن تكون بيتا للمصالحة.
(المصدر راديو الفاتيكان)
خطاب البابا فرنسيس إلى الشعوب الأصلية: الأمم الأولى، والميتيس والإنويت
استهل البابا فرنسيس زيارته الرسولية إلى كندا بلقاء جمعه مع الشّعوب الأصليّة: “الأمّم الأولى”، والميتيس والإنويت. فقد توجه صباح الاثنين بالتوقيت المحلي إلى منطقة ماسكواسيس الواقعة على بعد سبعين كيلومترا جنوب مدينة إدمونتون.
ألقى البابا خطابا للمناسبة قال فيه: انتظرتُ صابرًا حتى آتي بينكم، ومن هنا، من هذا المكان الذي يحمل ذكريات حزينة، أودّ أن أبدأ ما في قلبي رحلة توبة، أتيت إلى موطنكم الأصلّي لأقول لكم شخصيًّا إني أشعر بحزن، ولأطلب من الله المغفرة والشفاء والمصالحة، ولأعبِّر عن قربي منكم، ولأصلِّي معكم ومن أجلكم.
مضى البابا إلى القول: أتذكّر الاجتماعات التي عُقِدَت في روما منذ أربعة أشهر. قدَّمْتم لي إذاك زوجَي أحذية أطفال، علامةً على المعاناة التي عانى منها أطفال السّكان الأصليّين، وخاصّة الذين للأسف لم يعودوا قط إلى بيوتهم من المدارس الداخليّة الإجباريّة، إنّ ذكرى هؤلاء الأطفال تملأني بحزن، وتحثّنا على اتخاذ الإجراءات اللازمة حتى يعامل كلّ طفل بحبّ وتقدير واحترام، هذه الأحذية تحدِّثنا أيضًا عن رحلة، وعن مسيرة نريد القيام بها معًا، نسير معًا، ونصلّي معًا، ونعمل معًا، حتى تزول آلام الماضيّ، وحتى يحلّ محلّه مستقبل فيه عدل وشفاء ومصالحة.
تابع الحبر الأعظم خطابه قائلا: أيّها الإخوة والأخوات، لقد عشتم في هذه الأرض منذ آلاف السّنين بأنماط حياة احترمت الأرض نفسها، التي ورثتموها من الأجيال السابقة وحفظتموها لأجيال المستقبل، عاملتموها على أنّها هبة من الخالق تتقاسمونها مع الآخرين، وتحبّونها بالانسجام مع كلّ الخليقة، في ترابط شديد بين جميع الكائنات الحيّة، وهكذا تعلّمتم أن تغذوا في نفوسكم حِسًّا مرتبطًا بالعائلة والجماعة، وأنشأتم روابط متينة بين الأجيال، فكرَّمْتم كباركم ورعيتم صغاركم. كم من العادات والتعالّيم الصّالحة التي تتركّز على الاهتمام بالآخرين وحبّ الحقيقة، والشّجاعة والاحترام، والتواضع والأمانة، وحكمة الحياة!
أضاف البابا: المكان الذي نحن فيه الآن ينتزع مني صرخة ألم تدوّي في داخليّ، صرخة ظلّت مكتومة في صدري ورافقتني في الأشهر الماضيّة، أعود بالذاكرة إلى المأساة التي عانى منها الكثيرون منكم، وعائلاتكم وجماعاتكم، وإلى ما شاركتموني فيه حول مآسي المدارس الداخليّة الإجباريّة، ذكرى الخبرات المدمّرة التي حدثت في المدارس الداخليّة الإجباريّة أمر مذهل، يثير الغضب، والوجع، لكنّه ضروريّ.
هذا ثم قال البابا: من الضّروريّ أن نتذكّر كيف كانت مدمّرة، لأهاليّ هذه الأراضيّ، سياسات الاستيعاب والتّحرير، التي شملت أيضًا نظام المدارس الداخليّة الإجباريّة، وكيف أدّت سياسات الاستيعاب إلى تهميش الشّعوب الأصليّة بصورة ممنهجة، وكيف تمّ أيضًا تشويه وإلغاء لغاتكم وثقافاتكم من خلال نظام المدارس الداخليّة الإجباريّة، وكيف تعرّض الأطفال إلى اعتداءات جسديّة ولفظيّة، ونفسيّة وروحيّة، وكيف تمّ اختطافهم بعيدًا عن بيوتهم وأهلهم عندما كانوا صغارًا، وكيف ترك ذلك أثرًا بالغًا لا يمحى في العلاقة بين الآباء والأبناء والأجداد والأحفاد.
تابع البابا قائلا: أنا هنا، حتى تكون الخطوة الأولى في رحلة الحجّ والتوبة هذه بينكم هي تجديد طلب المغفرة منكم، وحتى أقول لكم، بكلّ قلبي، إني حزين جدًّا، أطلب المغفرة للطرق التي دعم بها، للأسف، العديد من المسيحيّين العقليّة الاستعماريّة للسّلطات التي اضطهدت الشّعوب الأصليّة. فأنا متألّم بألمكم. وأطلب المغفرة، ولا سيّما، للطرق التي تعاون بها العديد من أعضاء الكنيسة والجماعات الرهبانيّة، وأيضًا للامبالاة التي أظهروها، في تلك المشاريع المدمّرة للثقافات، وفي الاستيعاب القسري التي لجأت إليها حكومات ذلك الوقت، والتي بلغت ذروتها في نظام المدارس الداخليّة الإجباريّة.
أضاف البابا بعدها: على الرّغم من أنّ المحبّة المسيحيّة كانت حاضرة، وكانت هناك حالات مثاليّة، ليست قليلة، في التفاني من أجل الأطفال، إلّا أنّ النتائج الإجمالية لسياسة المدارس الداخليّة الإجباريّة كانت كارثيّة. أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، قال العديد منكم ومن ممثليكم أنّ الاعتذار ليس نهاية المطاف، أوافق تمامًا: إنّها الخطوة الأولى فقط، ونقطة الانطلاق. جزء مهم من هذه العمليّة هو إجراء بحث جادّ عن الحقيقة حول الماضي ومساعدة الأحياء الباقين من تلك المدارس الداخليّة الإجباريّة، للشروع في مسارات الشّفاء من الصّدمات التي تعرّضوا لها.
وقال البابا فرنسيس: أصلّي وآمل أن ينمو المسيحيّون والمجتمع في هذه الأرض في مقدرتهم على التّرحيب بهوية وخبرة الشّعوب الأصليّة واحترامها. وسأستمرّ في تشجيع التزام جميع الكاثوليك تجاه الشّعوب الأصليّة. لقد فعلت ذلك في عدة مناسبات وفي أماكن مختلفة، في اللقاءات والنداءات وأيضًا في إرشاد رسوليّ خاص. أعلَم أنّ كلّ هذا يتطلّب وقتًا وصبرًا: فهذه عمليّات يجب أن تدخل في القلوب، ووجودي هنا والتزام الأساقفة الكنديّين هما شهادة على إرادتنا للمضيّ قُدُمًا في هذه الطريق.
وختم البابا فرنسيس خطابه بالقول: أنا هنا اليوم لأتذكّر الماضي، وأبكي معكم، وأنظر إلى الأرض في صمت، ولأصلّي عند القبور. لندع الصّمت يساعدنا جميعًا على استيعاب الألم. الصّمت. والصّلاة. أمام الشّرّ نصلّي إلى ربّ الخير. وأمام الموت، نصلّي إلى إله الحياة. جهودنا ليست كافيّة للشفاء والمصالحة، فنحن بحاجة إلى نعمة الرب: نحن بحاجة إلى حكمة الرّوح الوديعة والقويّة، وإلى حنان الرّوح المعزيّ. ليملأ هو توقعات القلوب. وليأخذ هو بيدنا. وليكن هو الذي يجعلنا نسير معًا.
(المصدر راديو الفاتيكان)