فوجئنا الجمعة قبل الماضي وفي اليوم الثاني لاجتماع كبار العالم الاقتصادي والصناعي الـG7 فى بوليا – بإيطاليا، أن دخل عليهم قداسة البابا فرنسيس ليجتمع وجهاً لوجه مع قادتهم وضيوفهم، ورغم جسده الواهن ولكن ذهنه المتقد (87 سنة)، ألقى فيهم كلمة عن مستقبل الذكاء الاصطناعي والتوازن بين كرامة الإنسان والنظر إلى مستقبله والتقدم التكنولوجي والأخلاقيات التي يجب إتباعها. هذا اللقاء يذكرنا بطيب الذكر البابا لاون الثالث عشر عندما أطلق وثيقة مشهورة “الأشياء الحديثة” عام 1891 في مستهل الثورة الصناعية والذي اهتم بكرامة العمال وحقوقهم في مواجهة أفكار كارل ماركس في كتابه “رأس المال” الصادر في 1867 والذي تحول لاحقاً إلى الإيديولوجية الشيوعية والاشتراكية مستعبداً الإنسان ومعادياً للأديان.
وعودة للبابا فرنسيس لم تكن هذه المرة الأولى التي يتعرض لهذا الموضوع، فقد سبق أن أستبق المخاوف المترتبة على انفلات هذا العالم التكنولوجي الجديد، فأصدر عام 2020 “نداء روما”، مطالباً بما أسماه الخوارزميات الأخلاقية (نسبة للعالم أبو جعفر الخوارزمي الذي أكتشف مجموعة من الخطوات الرياضية والمنطقية المتسلسلة اللازمة لحل مشكلة ما)، كما وجه في بداية هذا العام بمناسبة اليوم العالمي للسلام رسالة وجه أنظار العالم إلى العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والسلام العالمي والتوازن بينهما.
وفي كلمته، قال أن الله قد أعطى البشر روحه ليكون لهم “الحكمة والفطنة والمعرفة في كل عمل”. ولذلك، فإن العلم والتكنولوجيا هما نتاجان للإمكانات الإبداعية التي لدينا نحن البشر. وبالتالي، فمن خلال استخدام هذه الإمكانات الإبداعية التي وهبها الله لنا، ولد الذكاء الاصطناعي، الذي وكما هو معروف، هو أداة قوية جدًّا، تُستخدم في العديد من مجالات العمل البشري: من الطب إلى عالم العمل، ومن الثقافة إلى مجال الاتصال، ومن التعليم إلى السياسة. واستخدامه سيؤثر بشكل أكبر على أسلوب حياتنا، وعلاقاتنا الاجتماعية، وفي المستقبل حتى على الطريقة التي نرى بها هويتنا كبشر. ومع ذلك، غالبًا ما يُنظر إلى موضوع الذكاء الاصطناعي كشيء ثنائي التكافؤ: فمن ناحية، هو يحمّس على الإمكانيات التي يوفرها، ومن ناحية أخرى هو يولِّد الخوف من العواقب التي يقترحها.
وأضاف الأب الأقدس يقول وحول هذا الموضوع بالتحديد، “اسمحوا لي أن أؤكد: في مأساة مثل مأساة الصراعات المسلحة، من المُلحِّ أن نعيد التفكير في تطوير واستخدام أجهزة مثل تلك التي تُعرف بـ”الأسلحة المستقلة الفتاكة” لحظر استخدامها، بدءًا من التزام فاعل وملموس من أجل إدخال سيطرة بشرية أكبر وأهمّ. لا ينبغي لأية آلة على الإطلاق أن تختار ما إذا كانت ستقضي على حياة إنسان أم لا. وعلينا الآن أن نضيف ملاحظة عامة على ما قلناه. إن زمن الابتكار التكنولوجي الذي نعيشه، في الواقع، يترافق مع وضع اجتماعي خاص وغير مسبوق. ويتم تسجيل نوعًا من الضياع أو على الأقل كسوفاً لمعنى البشري وتضاؤلاً واضحاً لمفهوم الكرامة البشرية. وهكذا، في هذا الزمن الذي تُسائل فيه برامج الذكاء الاصطناعي الإنسان وأفعاله، يخاطر ضعف الروح المرتبط بفهم قيمة وكرامة الإنسان بأن يصبح أكبر نقطة ضعف في تنفيذ وتطوير هذه الأنظمة.
وتابع البابا قائلاً، إن القرار الأخلاقي، في الواقع، هو القرار الذي يأخذ في عين الاعتبار لا نتائج عمل ما وحسب، وإنما أيضًا القيم المعرضة للخطر والواجبات الناتجة عن هذه القيم.
إن المجتمع العالمي يعاني من أوجه قصور هيكلية خطيرة لا يمكن حلها بمجرد عمليات ترقيع أو حلول سريعة وعرضية. هناك أشياء تحتاج إلى التغيير من خلال عمليات إعادة ضبط أساسية وتحولات مهمّة. ولا يمكن أن تقودها إلا سياسة سليمة، تشمل مختلف القطاعات والمعارف الأكثر تنوعاً. وبهذه الطريقة، يمكن لاقتصاد مندمج في مشروع سياسي واجتماعي وثقافي وشعبي ويتوق نحو الخير العام أن “يفتح الدرب أمام فرص مختلفة، لا تعني وقف الإبداع البشري وحلمه بالتقدم، بل توجيه تلك الطاقة بطريقة جديدة”.
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول وهذا هو بالضبط حال الذكاء الاصطناعي. وعلى كلِّ واحد منا أن يستخدمه بشكل جيد، وعلى السياسة أن تخلق الظروف التي تجعل هذا الاستخدام الجيد ممكنًا ومثمرًا.
الأب رفيق جريش