ماذا تعني رسالة ظهور العذراء مريـم في مدينة لورد الفرنسية للكنيسة والبشرية؟
في ١١ فبراير سنة ١٨٥٨ ظهرت العذراء مريـم في مدينة لورد بفرنسا، في مغارة كانت زريبة للخنازير، على القديسة برناديت سوبيرو، وكانت برفقة أختها وصديقتهما، وقد ذهبن لجلب الحطب من الغابة. ففيما همّت برناديت الالتحاق بأختها وصديقتهما، وقبل أن تعبر القناة، إذا بها تسمع صوت ريحٍ قويّ، ولكن دون أن تهتزّ الأشجار. فرفعت رأسها وإذا بها ترى فتاةً جميلة جداً يغلّفها نورٌ جميل وكثيف، وكانت تنظر إليها وتبتسم لها… وهكذا كان هذا الظهور الأول للعذراء.
سؤال: لماذا جاءت العذراء مريم لتظهر في مغارة حقيرة وقذرة، ومرتعاً لأوسخ الحيوانات الذين هم الخنازير وفق ما كان يُنظر إليهم في شريعة العهد القديم؟ الجواب واضح وبسيط: كما تجسّد السيد المسيح منذ أكثر من ألفي سنة في مغارة حقيرة، كانت إصطبل للحيوانات، ولكن غير نجسة، لكي يرفع طبيعتنا التي تشوّهت بسبب الخطيئة والمعصية، اليوم أيضاً، يُرسِل الله ابنته المحبوبة مريم، أمّ الله وأمّ الكنيسة، وأمّ البشر أجمعين، البريئة من دنس الخطيئة، الطاهرة، والكليّة القداسة، والدائمة البتولية، لكي تدلّنا أولاً على أنّ الله يأخذ دائماً زمام المبادرة لملاقاة أبنائه المساكين الذين خلقهم بمحبة، ويريد أيضاً أن يخلصهم ويفتديهم بمحبة. إنّ حالة المغارة القذرة في لورد، والتي تحوّلت إلى مرتع للخنازير، هي بالتأكيد تدلّ على حالة البشرية المفتداة بدم الابن الوحيد على الصليب، والتي بدل أن تكون قد وصلت بعد كل هذه السنين من خلال الكنيسة وتعاليمها لتُشبه صورة الابن الذي خُلِقَت على صورته، وهو صورة الآب السماوي أبيه وبهاء مجده، ها هي موجودة في حالٍ أبشع وأقذر من حال الخنازير الذين يتمرّغون في مستنقعاتهم، أي إنهم غاطسون في الخطيئة على جميع أنواعها، غير آبهين لتعليم الكنيسة المؤتمنة على تعليم مؤسِّسها وفاديها يسوع المسيح، بل موجِّهين عقلهم وفكرهم وأذانهم وقلوبهم، نحو سيد هذا العالم، قتّال النفوس إبليس كما سماه يسوع، الذي يريد جرّهم للعيش في الخطيئة على الدوام، ليستطيع أخذهم إلى مملكته في جهنم، حيث الصراخ والعويل والعذاب الذي لا ينتهي، كما أنذرنا الرّبّ يسوع في إنجيله المُقدّس. إنّ سبب مجيء العذراء مريـم النقيّة الطاهرة إلى مغارة قلوبنا القذرة هو: لتدلّنا على التشبّه بها، لإنَّ الله خلقها بإمتيازٍ عجيب وخاص ” مباركةٌ انت بين النِّساء ” فيجب أن تكون لنا المثال والقدوة لبلوغ القداسة، هي التي بُهِتَ الروح القدس الذي حلّ عليها فهتف: ”كلّكِ جميلةّ يا خليلتي، وليس فيكِ عيب“. لقد قالت السيدة العذراء لبرناديت سوبيرو، عندما طلبت منها هذه الأخيرة أن تكتب إسمها وماذا تريد منها، أجابت: ” ليس من الضروري أن يُكتب خطّياً ما يجب أن أقوله لكم “. لقد أرادت العذراء أن يَصِل كلامها إلى القلب، إلى أعماق قلب كل أنسان، لأن القلب هو مركز الإنسان حسب الكتاب المقدّس، وبالتالي، علينا أن نفتح قلوبنا لسماع كلمة الله، وليس أعيننا لكي نقرأها دون أن تدخل في أعماق قلوبنا. ألم يَقُل القديس لوقا الإنجيلي: ”وكانت تحفظ جميع هذه الأمور، وتتأملها في قلبِها ” (لوقا ٢: ١٩)، تتأمل كل ما قيل عن الطفل يسوع في العهد القديم، و أيضاً بكلامه هو الإله الذي تأنّس في أحشائها الطاهرة. في الظهور الثاني، طلبت السيدة العذراء من برناديت قائلة: ”هل تريدين أن تفعلي لي هذه النعمة، بأن تأتي إلى هنا أي إلى هذه المغارة لمدّة خمسة عشر يوماً متتالياً ؟ لقد دُهشت برناديت للطريقة المهذّبة والحنونة التي خاطبتها من خلالها العذراء مريم، ولم يسبق لأحدٍ أن خاطبها من قبل بهذا الحبّ وهذا الاحترام. لقد علّمتنا العذراء مريم بطريقة كلامها، كم الإنسان هو رفيع ومحترم عند الله، لأنه خلقه على صورته ومثاله. لقد أطاعت برناديت طلب العذراء مريم، وبناءً على طلبها بدأت تأتي إلى المغارة كل يوم على مدى ١٥ يوم متتاليين. لماذا طلبت السيدة العذراء العدد ١٥؟ بكل بساطة، لأنه يرمز إلى أسرار ”الوردية المقدسة” الخمسة عشر، وكانت العذراء مريم تصلّي مع برناديت مسبحة الوردية. فعندما كانت برناديت تتلو الأبانا، كانت العذراء ترفع يديها لتصلّي معها الصلاة الربيّة (أبانا الذي في السَّمَوات). وعندما كانت برناديت تصلّي السلام الملائكي، كانت العذراء مريم تجمع يديها لتتقبّل التضرّع المقدّم لها، والذي يمكّنها من التشفّع للذين يلجأون إليها بالصلاة. إنّ صلاة الوردية هي مختصر لحياة وبشارة وآلام وموت وقيامة وصعود يسوع المسيح، وأمه مريم المتّحدة معه في الخلاص بإرادة الآب السماوي. لقد أتت العذراء مريـم لتذكّرنا أهمية صلاة المسبحة الوردية بكامل أسرارها: الفرح والحزن والمجد، والجدير بالذكر أنَّ البابا القديس يوحنا بولس الثاني أضاف على الأسرار الخمسة عشر أسرا النور، والتي تجعلنا نتأمّل في كل بيت منها بما جاء في الإنجيل عن حياة وأعمال وتعاليم السيد المسيح، مع طلب نَيْل النِعَم المتوافقة مع كل سرّ من أسرارها. وفي أحد ظهورات العذراء مريـم، التي بلغت ١٨ ظهوراً، طلبت أن يأتي الناس للاغتسال في النبع، الذي أصبحت مياهه صافية نقية، بعد أن كان لونها عكراً بسبب وسخ الوحل والأعشاب، التي ترمز إلى خطايا الإنسان البعيد عن الله، كانت بذلك تنبّهنا هذه الأمّ الحنون الساهرة على سلامة وخلاص أبنائها، إلى ضرورة الذهاب إلى كرسيّ الاعتراف، لنيل سرّ الغفران على خطايانا التي لطّخت جمال أنفسنا وشوّهته، وأيضاً الاغتسال بالدم والماء الكريمَين، اللذَين تدفّقا من جنب المسيح يسوع وهو على الصليب، وهذا يعني رمز الولادة الجديدة. اغتسلوا في النبع، أي عودوا إلى حال القداسة والنعمة، أنقياء وأطهار. كيف يكون ذلك ؟ فقط في سرّ التوبة والمصالحة الذي أسّسه السيد المسيح ليلة خميس الأسرار. أخيراً، وعندما أصرّت برناديت بطلب من كاهن الرعية أن تقول لها العذراء ما هو اسمها، ومن هي؟، أجابت السيدة العذراء: ”أنا الحَبَل بلا دَنس “. لم تقُل العذراء مريـم: أنا التي حُبِلَ بي بلا دنس، بل قالت: ”أنا الحبَل بلا دنس”. كلام لاهوتيّ عميق، له دلالةٌ لاهوتية كبيرة، وأسرار الله لا تُكشف سوى للأطفال، أي للمتواضعين، البسطاء، الأنقياء القلوب (متى ٥: ٨)، الدائمي العيش في الطفولة الروحية.
+المطران كريكور أوغسطينوس كوسا اسقف الإسكندرية للأرمن الكاثوليك
(زينيت)