رسالة عيد القيامة 2024
البطريرك يوسف العبسي
المسيح قام! حقًّا قام!
أيّها الأحبّاء، هوذا قد بلغنا إلى هذا اليوم، يوم سبت النور، يوم النورِ الذي يفيض من القبر، يوم المسيحِ الذي يقوم من بين الأموات، من بعدِ أن استعددنا لهذا اليوم المنتظَرِ مدّة خمسين يومًا قضيناها بالصلاة والصوم وأعمال البرّ حتّى نحتفل في هذه الساعة بالنقاوة والسلام والفرح وننشدَ كلّنا معًا بفم واحد وقلب واحد، بصوت عالٍ: “قم يا ألله واقضِ في الأرض فإنّك ترث جميع الأمم”، حتّى ننشدَ: “المسيح قام”.
قم يا ألله! المسيح قام! نقولها بفرح، إلّا أنّ في قلبنا مع الفرح غصّة. كيف لا والموت في مناطق كثيرة من العالم بل من حولنا بالقرب منّا في فلسطين في غزّة يفتِك ويحصُد عشرات الآلاف من الأبرياء والشرُّ يتفاقم ويتغلغل وكأنّ العالم بات محكومًا عليه بهما، بالموت والشرّ، ومستسلمًا لهما، يستخدمهما أو يخضع لهما أناس لا يعرفون معنًى ولا قيمة ولا طعمًا للحياة والخير، حتّى إنّنا بات يلزمنا الكثير من القوّة لنؤمن بأنّ الحياة تنتصر، الكثيرُ من الجهد لنؤمن بأنّ المسيح قام من بين الأموات وبأنّه قد لاشى الموت آخر عدوّ لنا كما وصفه بولس الرسول (1كور15: 26)، يلزمنا الكثير من الإقناع لكي نؤمن بما علّمنا بولس أنّ المسيح صار إنسانًا لكي يُبيد بالموت [بموته] من له سلطان الموت: أعني إبليس” (عبرا 2: 14)، باتت متزعزعة ثقتنا بقول يسوع: “أنا القيامة والحياة من آمن بي وإن مات فسيحيا” (يوحنّا11: 25)، “ثقوا فقد غلبتُ العالم” (يوحنّا16: 33)، بات ضعيفًا رجاؤنا بأنّنا بالغون إلى الحياة، إلى الحرّيّة والأخوّة والمساواة والعدالة والكرامة والسعادة.
إلّا أنّ الكنيسة، بالرغم من ذلك، بالرغم من الشرّ المنتشر في العالم ومن البشاعات البشريّة التي نراها في كلّ يوم وفي كلّ مكان، والتي من شأنها أن تزعزع إيماننا وتزرعَ الشكّ في قلوبنا، تدعونا [الكنيسة] إلى أن نَزيد إيمانًا بأنّ يسوع قام من بين الأموات وبأنّه داس الموتَ بالموت. تقول لنا الكنيسة في هذا الصباح المنير بجرأة ويقين كبيرين “لقد رأينا قيامة المسيح”. بعد ألفي عام من الأهوال والويلات، من الحروب والكوارث، من القتل والموت، التي ضربت وتضرب البشريّة، ما زالت الكنيسة تصدح بأعلى صوتها لقد رأينا قيامة المسيح. ما زالت الكنيسة اليوم وفي كلّ لحظة من حياتها تعيش بقوّةٍ تلك اللحظة التي عاشها يوحنّا الرسول حين دخل مع بطرس الرسول إلى قبر المسيح ورآه فارغًا فقال عن حاله: “رأى وآمن”. وما زالت الكنيسة تردّد لتوما المشكّك ولكلّ من يحاكيه قولَ المسيح له “هاتٍ إصبعك إلى ههنا وانظر يديّ وهاتٍ يدك وضعها في جنبي ولا تكن غير مؤمن بل مؤمنًا” (يوحنّا20: 27). أجل الكنيسة ترى قيامة الربّ يسوع في كلّ لحظة كما لو أنّها حاصلة في كلّ لحظة.
في نظرنا نحن المسيحيّن ليست قيامة السيّد المسيح واقعة وقعت في التاريخ وبقيت محدودة حيث وقعت وحين وقعت وخُتِم عليها. لم ينتهِ كلّ شيء بأن قام السيّد المسيح ثمّ طويت الصفحة كما تطوى صفحات التاريخ كلّها. قيامة السيّد المسيح واقعة تمتدّ عَبر الزمان والمكان وتبقى حاضرة فاعلةً إلى أن يصير الله كلًّا في الكلّ، إلى أن ننتهي كلّنا إلى المسيح ونكونَ مع الربّ دائمًا، كما يقول بولس الرسول. ولكي تبقى القيامة هكذا مستمرّة، لكي يبقى المسيح القائم من بين الأموات معنا، كما وعدنا بقوله: “ها أنذا معكم إلى انقضاء الدهر”، صنع سرّ القربان المقدّس، كما أخبرنا الإنجيليّون الثلاثة متّى ومرقس ولوقا، وعهِد إلى تلاميذه بأن يصنعوه بدورهم “إلى أن يأتي”. أسّس الربّ يسوع في ليلة آلامه سرّ القربان المقدّس الذي فيه يكون حاضًرا معنا بحسده ودمه. القيامة مستمرّة في سرّ القربان المقدّس. الخبر المحوّل إلى جسد المسيح والخمر المحوّل إلى دمه هما يسوع المسيح القائم من بين الأموات والحاضر معنا. لا نستطيع أن نفصل سرّ القربان عن القيامة. لذلك يقول لنا الربّ يسوع في إنجيل يوحنّا: “من يأكلْ جسدي ويشرب دمي فله الحياة وأنا أقيمه في اليوم الأخير” (يوحنّا6: 54). القيامة مرتبطة ارتباطًا جوهريًّا بسرّ القربان المقدّس ومستمرّة به. لذلك يقول لنا القدّيس بولس أيضًا في الرسالة الأولى إلى أهل كورنتس إنّه سلّمنا ما تسلّمه هو نفسه، سلّمنا أمرين متلازمين. الأمرُ الأوّل هو أنّ الرب يسوع، في الليلة التي أُسلِم فيها، أخذ خبزًا وشكر وكسره وقال ’هذا هو جسدي الذي هو لأجلكم، اصنعوا هذا لذكري‘، وكذلك الكأس من بعد العشاء قائلًا ’هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي، اصنعوا هذا كلّما شربتم لذكري‘” (1كور11: 23-27). والأمر الثاني هو “أنّ المسيح قد مات من أجل خطايانا… وأنّه قُبر وأنّه قام في اليوم الثالث” (1كور15:3-4). لم تنتهي قيامة المسيح كما أراد أن ينهيها اليهود بأن رشوا الحرّاس ليقولوا إنّ تلاميذ يسوع سرقوا جسده ليلًا وقالوا إنّه قام. كلّا. قام المسيح وهو باق معنا بجسده ودمه إلى انقضاء الدهر. هكذا أخبرنا متّى الإنجيليّ بقوله: “لـمّا رأى التلاميذُ الأحدَ عشر يسوع القائم سجدوا له هم الذين كانوا قبلًا قد ارتابوا فدنا يسوع وكلّمهم قائلًا ها أناذا معكم كلّ الأيّام إلى انقضاء الدهر” (متّى28: 16-20).
وإذا كانت القيامة مستمرّة، إذا كان يسوع القائم من بين الأموات حاضرًا معنا على الدوام ما عادت القيامة في نظرنا نحن المسيحيّين حدثًا ننتظره في المستقبل فقط، حدثًا سيحصل في يوم من الأيّام، بل هي حدث نعيشه ونطبّقه في كلّ يوم ولو بشكل غير كامل إلى أن يُلاشي الربُّ يسوع الموتَ آخر عدوّ، “ويُخضِعَ نفسه للذي أخضع له كلّ شيء، ليكون الله كلًّا في الكلّ”، كما يقول بولس الرسول (1كور15: 20-28). القيامة هي في كلّ عمل يحرّر الإنسان، في كلّ عمل يعيد إليه كرامته، في كلّ عمل يزرع الفرح والسلام في حياته، في كلّ عمل عادل منصف، في كلّ عمل جميل وجيّد. القيامة هي في القداسة والشهادة اللتين نراهما في الكنيسة في شعبها كلّه من أقصى الأرض إلى أقصاها.
في هذه الصباح نحتفل بما تسمّيه الكنيسة نزول السيّد المسيح إلى الجحيم. الجحيمُ في العُرف الكتابيّ هي المكان المظلم البارد، هي السجن الذي كان الناس قبل قيامة الربّ يسوع، من آدم وحوّاء إلى زمن المسيح، يذهبون إليه بعد موتهم، أكانوا خطأة أم لم يكونوا خطأة، من دون أمل لهم بحياة أفضل. تقول الكنيسة، تبعًا لهذا العُرف، لهذا المفهوم، إنّ السيّد المسيح نزل بعد موته إلى الجحيم وحطّم أبوابها وكسر أقفالها وأقام معه كلّ من كان فيها إلى غير رَجعة. تريد الكنيسة أن تقول بذلك إنّ قيامة السيّد المسيح لا تمتدّ إلى الأمام فقط لا تفعل في الحاضر والمستقبل فقط بل أيضًا في الماضي. الخلاص الذي حصلنا عليه بقيامة السيّد المسيح يطال البشريّة كلّها منذ الخليقة إلى نهاية الأزمان، منذ البدء إلى الأزل. إنّه خلاص شامل، لأنّ الله “يريد أنّ جميع الناس يخلصون ويبلغون إلى معرفة الحقّ” (1تيم2: 4)، كما يقول بولس الرسول، ولأنّ المسيح كلمة الله إنّما هو النور الذي ينير كلّ إنسان” كما يقول يوحنّا الإنجيليّ (يوحنّا1: 9). القيامة لا يحدّها مكان ولا زمان. النزول إلى الجحيم هو للدلالة على ذلك. قام المسيح وخلّص البشريّة كلّها منذ بدايتها إلى نهايتها ومن دون استثناء لأحد.
النزول إلى الجحيم والقيامة من القبر هما وجهان لحقيقة واحدة، هما حركتان لهدف واحد ألا وهو انتصار الحياة على الموت والنور على الظلمة والنعمة على الخطيئة والحبّ على البغض والغفران على الضغينة، بيسوع المسيح ابن الله. لذلك تدعونا الكنيسة إلى أن نجدّد اليوم حياتنا، أن “نعيّد، كما يقول بولس، لا بالخمير العتيق ولا بخمير السوء والخبث بل بفطير العفّة والحقّ” (1كور5: 8). وبدايةُ التجدّد، انطلاقة العيد هي الغفران. تدعونا الكنيسة اليوم إلى أن ننقّي قلوبنا وعقولنا وحواسّنا. أن نخرج من الظلمة إلى النور ومن الجحيم إلى السماوات ومن الموت إلى الحياة. تدعونا إلى أن نصحبها بالترنيم ونقول: “اليوم يوم القيامة فلنبتهج أيّها الإخوة، ولنصافح بعضنا بعضًا، ولنقل إنّنا لأجل القيامة نصفح لمبغضينا عن كلّ شيء، فنستطيع هكذا أن نرنّم: المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت ووهب الحياة للذين في القبور”.
نصلّي في هذا اليوم المقدّس بعضنا من أجل بعض. نصلّي من أجل كنيستنا الملكيّة والكنيسة الجامعة. نصلّي من أجل المسؤولين عنّا سيادةِ الرئيس عبد الفتّاح السيسي ومعاونيه. نصلّي من أجل حكّام العالم. نصلّي من أجل الذين يقضون ضحيّة الظلم والحقد والبغض واللامبالاة والتعجرف والتمييز العنصريّ والحرمانِ من الماء والغذاء والدواء لا سيّما في هذه الأيّام أبناءِ فلسطين وغزّة. نصلّي مع تلك التي تألّمت وحزنت بموت ابنها قائلين لها مع الكنيسة: “وأنت يا والدة الإله النقيّة افرحي بقيامة ولدك”.
أجل أيّها الأحبّاء افرحوا وأيضًا أقول افرحوا:
المسيح قام!