
ميثاق المسكونية الجديد.. نص يمد ذراعيه للأقليات
المهاجرون، والشباب، والتوظيف العادل، والتقنيات الحديثة: هذه بعض التحديات التي تنتظر المسيحيين الأوروبيين في الوثيقة التي نقّحها ووقّعها أمس رئيسا اتحاد مجالس أساقفة أوروبا ومجلس الكنائس الأوروبية. قال رئيس أساقفة فيلنيوس، ورئيس اتحاد مجالس أساقفة أوروبا: “النصّ يشمل الجميع”، وأعرب عن أمله بالنسبة للوضع في أوكرانيا قائلاً: “لعلّ السياسيين يجدون طريق السلام العادل، من دون سلاح”.
في خضمّ الحروب، والاضطرابات الجيوسياسية، وتغيّرات التوازنات العالمية، والظهور المُزعزع للتقنيات الجديدة، حان الوقت لاتخاذ خيارات جريئة وليختار المسيحيون الأوروبيون، مرةً أخرى ولكن بطريقة جديدة، الوحدة في التنوّع، والوحدة في الإيمان بالمسيح، والحوار، ورباط السلام المُقدّس. استجابةً لعالمٍ متغيرٍ اتّسم بجراح الكراهية والانقسام، قرر اتحاد مجالس أساقفة أوروبا (CCEE) ومجلس الكنائس الأوروبية (CEC) مراجعةَ ميثاق المسكونية الذي صدر عام ٢٠٠١، وهو حجر الزاوية في التعاون المسكوني الأوروبي لأكثر من عقدين. قد أدرك ممثلو الهيئتين هذه الحاجة الملحة منذ العام ٢٠٢٢، عقب غزو روسيا لأوكرانيا، ووقّعا يوم 5 نوفمبر، في روما في كنيسة استشهاد القديس بولس (كنيسة القديس بولس عند الينابيع الثلاثة)، هذه الوثيقة المقسمة إلى خمسة فصول وخمس عشرة فقرة.
ويوم 6 نوفمبر، في لقاءٍ مع البابا لاوُن في الفاتيكان، أشاد البابا بالميثاق الجديد ووصفه بأنه “جهدٌ مجمعي” عظيم يهدف إلى بناء رؤية مشتركة لجميع التحديات التي تواجه المسيحيين.
“شجعنا الأب الأقدس على مواصلة مسيرة المسكونية وأكد مجدداً على أهمية العمل التبشيري والشهادة في قارةٍ تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الرسالة المسيحية. لقد واصلنا هذا العمل وهذه الخدمة معاً لسنوات: نؤكد على مركزية كلمة الله في أوروبا التي تسودها العلمانية المفرطة”، هذا ما صرّح به المونسنيور جينتاراس غروشاس، رئيس أساقفة فيلنيوس ورئيس اتحاد مجالس أساقفة أوروبا، لوسائل الإعلام الفاتيكانية. وأضاف المطران أن العمل المسكوني بطبيعته عمل في تطور مستمر فإنه ليس مجرد مسألة تقارب مع احترام السمات المميزة لكل تقليد أو ثقافة أو طائفة مسيحية، بل هو تعاون، لا بل مساهمة، من أجل خير البشرية. العديد من النقاط البرنامجية في الميثاق المسكوني تطلّبت المراجعة، وفي مقدمتها الالتزام بالمصالحة في عالم تسوده الحروب بالإضافة الى الإرهاب والعنف واللاإنسانية، وأصبح مسيحيو أوروبا اليوم صانعي السلام ومروجيه من خلال دعمهم الناشط لمبادرات الوساطة ونزع السلاح.
شدد المونسنيور جروساس قائلاً: “هناك أيضاً حاجة لتعزيز العدالة الاقتصادية والاجتماعية من خلال سياسات تخدم الصالح العام وليس مصالح البعض”، ويضيف قائلاً: “لقد تغير العالم، وتغيرت أوروبا، ولا يمكننا أن نغض النظر عن ذلك فهناك تحديات تفرضها الهجرة والتقنيات الجديدة. أردنا أيضاً إيلاء اهتمام أكبر للعمال والشباب؛ فمشاركتهم أساسية للقارة؛ ونريد مساعدتهم على مواجهة هذه التحديات وعلى أن يكونوا مبشرين”. المسيحيون اليوم مدعوون للتنديد بالظلم والانتهاكات الاقتصادية التي تضطهد الفقراء، ولتعزيز ثقافة الترحيب والاشتمال، بما في ذلك تسليط الضوء على السياسات والممارسات التي تنتهك كرامة الإنسان، مع الالتزام في الوقت نفسه بحماية الحقوق الأساسية للمهاجرين واللاجئين. وأضاف المونسنيور قائلاً: “تقوم الكنيسة بعمل جبّار لمساعدة المهاجرين وجميع الهاربين من الحرب؛ ففي أوكرانيا، على سبيل المثال، لا يزال هناك آلاف النازحين داخلياً، بالإضافة إلى أولئك الذين غادروا بلادهم بحثاً عن ملاذ في دول أخرى. لكن الرسالة المسيحية تبقى كما هي، إنها رسالة يسوع، وهي الترحيب بالغريب”.
كما أشار رئيس أساقفة فيلنيوس إلى الصراعات العديدة التي لا تزال قائمة في أوروبا بعد ۲٥ عامًا، والفجوة بين الشمال والجنوب، وبين الغرب والشرق، ولم يُخفِ قلقه إزاء الحرب الطويلة في أوكرانيا. وعلّق قائلاً: “إنّ الميثاق المسكوني برمّته دليلٌ على هذه الحاجة إلى رأب الصدع، لأنه لا يوحّد الناس من مختلف الكنائس والطوائف فحسب بل بين الشرق والغرب، والشمال والجنوب أيضًا، ويسعى إلى الوحدة. وعندما نتحدث عن الوحدة المسكونية، فإننا لا نشير فقط إلى العقائد، بل إلى العمل المشترك والرسالة والشهادة: هذا هو السبيل لتبشير أوروبا اليوم. أما في أوكرانيا، نحتاج إلى هذا المنظور وإلى هذه الدبلوماسية، لا إلى الأسلحة، وذلك لمساعدة السياسيين على السعي من أجل السلام، ومساعدة المحتاجين، ولكن قبل كل شيء، هناك قوة الصلاة. علينا نحن أيضًا أن نعزز صلاتنا من أجل السلام، كما يُشدّد الأب الأقدس دائمًا، وعلينا أيضًا أن نصلي من أجل هبة الحكمة ليجد السياسيون طريق السلام العادل”.
كما علّق أيضاً رئيس اتحاد مجالس أساقفة أوروبا ومجلس الكنائس الأوروبية على دعوة البابا للترحيب بالأصوات والثقافات الجديدة في أوروبا وعلى العمل على الترحيب بالمجتمعات المسيحية التي تجد نفسها “أقلية بشكل متزايد” قائلاً: “يمثل الكاثوليك نصف المسيحيين في أوروبا، بينما يمثل الآخرون نسبة الخمسين في المائة المتبقية. ولذلك، يُعدّ هذا الحوار بين اتحاد مجالس أساقفة أوروبا ومجلس الكنائس الأوروبية مفيدًا للغاية، فمن الواضح أن لكل بلد نسبًا مختلفة داخله. على سبيل المثال، في موطني ليتوانيا، ثمانون في المائة من الشعب كاثوليك، والعشرون في المائة المتبقية أرثوذكس ولوثريون وغيرهم، ولكن هناك أيضًا مؤمنون غير منخرطين في هذا الحوار، ومنهم الحركات المسيحية الجديدة، لكن الوثيقة تمد ذراعيها لهم خصيصًا. معهم، يجب أن نجد حوارًا، وطريقة مشتركة للتبشير ونشر المعمودية التي توحدنا كشعب واحد لله”.
يحافظ الميثاق المنقّح على التركيز والعمل على حماية الخليقة ورعاية بيتنا المشترك، وهي رؤية بعيدة النظر وُضعت عام ٢٠٠١، لكنها أصبحت اليوم أكثر إلحاحًا بسبب تغير المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، والاستغلال العشوائي للموارد. مع ذلك، فإن مسألة التقنيات الجديدة مُدرّجة في الوثيقة. ويختتم المونسنيور غروشاس قائلاً: “ككنيسة، نحن مدعوون إلى المسؤولية البيئية، ولذلك كتبنا رسالة إلى الحكومات استعدادًا لمؤتمر الأطراف COP30 بشأن المناخ، نحثّهم فيها على تكثيف جهودهم لحماية الخليقة؛ فهناك إشكالية أخلاقية وموضوعية في آن واحد، وهي الحفاظ على الخليقة كهبة من الله لنا. وفيما يتعلق بالتقنيات الجديدة والذكاء الاصطناعي، نُدرك إمكاناتها الهائلة كأداة للتواصل والتضامن، ولكننا نُدرك أيضًا مخاطرها وإمكانية استخدامها ليس فقط لخير البشرية، بل أيضًا للشر”. لذلك، ثمة حاجة إلى أخلاقيات رقمية ترتكز أيضًا على كرامة الإنسان والخير العام. (راديو الفاتيكان)



