أخبار مشرقية

المطران بول روحانا: إن مستقبل كنائسنا وبلداننا لا يجب أن يعتمد على الحسابات والتحليلات الجيوسياسية

ترأس المطران بول روحانا، النائب البطريركي العام على نيابة صربيا المارونيّة قداسًا إلهيًّا في بازيليك القديس بطرس بالفاتيكان بحسب طقس الكنيسة السريانية-الأنطاكية المارونية، شارك فيه جميع المشاركين في الدورة الثانية للجمعية العامة العادية لسينودس الأساقفة حول السينودسية؛ وللمناسبة ألقى المطران بول روحانا عظة تحدث خلالها حول فظاعة الحرب المستعرة منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ في الأراضي المقدسة، والتي امتدت إلى لبنان ودول أخرى في المنطقة، للأسباب التي نعرفها، ليس هناك ما يمكنه أن يؤثِّر فينا أكثر من قراءة مقتطف من الرسالة التي وجهها البابا فرنسيس، في 7 أكتوبر، إلى الكاثوليك في الشرق الأوسط: “لسنة خلت اشتعل فتيل الكراهية، ولم ينطفئ بل تفجَّر في دوامة من العنف، وسط العجز المخزي للجماعة الدّوليَّة والدّول الأقوى عن إسكات الأسلحة ووضع حدٍّ لمأساة الحرب. إنَّ الدِّماء تسيل، مثل الدُّموع، ويتزايد الغضب ومعه الرَّغبة في الانتقام، فيما يبدو أنَّ لا أحد يهتمُّ بما يحتاج إليه الناس وما يريدونه: الحوار، والسَّلام. لن أتعب من تكرار أنَّ الحرب هي هزيمة، وأنَّ الأسلحة لا تبني المستقبل بل تدمِّره، وأنَّ العنف لن يحمل أبدًا السَّلام. والتَّاريخ يُثبِت ذلك، ومع ذلك، يبدو أنَّ سَّنوات الصِّراعات العديدة لم تُعلِّمْنا شيئًا”.

أضاف المطران روحانا يقول: بالنظر إلى حالة الحرب والعنف الموجودة في مختلف أنحاء العالم، والتي تُعد دليلاً على فشل وانهيار الحوار، وتؤدي إلى رفض وحشي لجميع أشكال التعايش الاجتماعي، ما هي الرسالة النبوية التي يمكن أن يقدمها لنا القديسون في هذه الأوقات العصيبة؟ كيف يمكننا أن نتعلم من مثالهم كرسل حقيقيين لله، بالمعنى الحقيقي للسلام، الذي وصفه البابا بندكتس الـ16 بأنه “حالة الإنسان الذي يعيش في انسجام مع الله ومع نفسه ومع قريبه ومع الطبيعة. فالسلام، قبل أن يكون خارجيًا، السلام هو داخلي؟” إنَّ القديسين، سواء عاشوا حياة رسولية أو تأملية، مثل القديس شربل، هم أولاً معلمونا في الإصغاء إلى كلمة الله، التي هي أساس مسيرتنا السينودسية. هم معلمونا عندما نأخذ الوقت لـكي “نتأمل” في هذه الكلمة ونتذوقها على مثال مريم، أخت مرتا، التي جلست عند قدمي يسوع تصغي إلى كلماته، ونبحث مثلها عن “النصيب الأفضل الذي لن يُنزع منها”. إنَّ رجال الله هؤلاء يعلموننا كيف نسمح لله بأن يغوينا، تمامًا كما فعل مع النبي إرميا الذي قال: “قد استغويتني يا رب فاستُغويت، قبضت علي فغلبتَ”.

تابع المطران روحانا يقول باتباع مثالهم، نثق في كلمة الله التي تُشَبَّه بحبّة القمح في مثل الزارع الإنجيلي. إنها كلمة تسعى – بصبر، وتحترم إيقاع كل فرد وتربته الثقافية، – لكي تزرع هذه الأرض أو الأساس الإنساني، الفردي والجماعي، لكي تجعلنا معاونين لله في نشر إنجيل الخلاص في يسوع المسيح. وهذا التعاون هو، نوعًا ما، أساس المسيرة السينودسية على المستوى العمودي مع الله والأفقي مع القريب.

أضاف المطران: يقول من يقول تعاون يقول أيضًا تناغم بين النعمة الإلهية الموجودة في الكلمة الإلهية وإرادتنا البشرية، لدرجة أنّ التلميذ-الرسول للمسيح يحتفظ بهذه الكلمة، كما يفعل الموسيقي، كـ “معيار نغمٍ” يضبط عليه فكره وسلوكه، بل وحتى كيانه كلّه. بفضل هذا التناغم، يمكن للمسيحي أن يرجو في التغلب التدريجي على المعضلة الوجودية والمؤلمة التي ذكرها بولس بين الإرادة والقدرة، لكي يتمكن من فعل الخير الذي يريده أو يرغب فيه ويتجنَّب الشر الذي لا يريده. وفي هذا المعنى، تتوقف الرسالة المسيحية، بحسب البابا بندكتس السادس عشر، عن كونها مجرد “إخبارية” لتصبح أيضًا “تغييرية”، “بمعنى أنها ليست مجرد خبر.. وإنما خبر يغير الحياة”. من الجميل أيضًا أن نلاحظ ثمار هذا التناغم الخلاق والمثمر الذي تشهد عليه هذه الصلاة السريانية-الأنطاكية المارونية القديمة التي يتلوها المحتفل بعد كسر الخبز الإفخارستي: ” وحدت يا رب لاهوتك بناسوتنا وناسوتنا بلاهوتك؛ حياتك بموتنا وموتنا بحياتك؛ أخذت ما لنا ووهبتنا ما لك لتحيينا وتخلصنا لك المجد الى الأبد”. لكل هذه الاعتبارات، من المهم أن نتذكر، خلال مسيرتنا السينودسية، أن مستقبل كنائسنا وبلداننا، وخاصة تلك التي تعيش في أزمات، لا يجب أن يعتمد فقط على الحسابات والتحليلات الجيوسياسية والجيوستراتيجية. ذلك لأن الكنيسة، كعائلة يسوع، هي أولاً جماعة “الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها”.

تابع روحانا يقول: إذ يتغذون بكلمة الله في مدرسة القديسين، سيتذكر المسيحيون في المسيرة السينودسية أيضًا، باستمرار، التعليم الثوري ليسوع، الذي يفيد بأن محبة الله ومحبة القريب لا ينفصلان ويتكاملان باستمرار، لكونهما وجهان لوصيّة واحدة. على ضوء هذا التعليم، الذي تم شرحه بوضوح في مثل السامري الصالح الوارد في إنجيل لوقا، لا يسأل المسيحي نفسه: “من هو قريبي؟”، خوفًا من أن يختاره بناءً على مصالحه الخاصة. بل يجد نفسه في سؤال يسوع لمعلِّم الشريعة، الذي أصوغه بحرية على النحو التالي: “هل أستطيع أن أكون قريبًا لكل ضحية أقابلها صدفة، بغض النظر عن أصلها، وأعتني بها حتى شفاءها؟”. في عيني يسوع، أن نكون قريبين من كل ضحية يجعلنا نشارك في رحمة الله: “كونوا رحماء كما أن أباكم رحيم”. نصبح قادرين على ذلك بفضل هذا التناغم الإلهي-الإنساني، الذي يوسع القلب أبعد من حدوده المعتادة ليكون شاهدًا وأداة لرحمة الله في زمن الأزمات. إنَّ مثل السامري الصالح سيبقى بوصلة لنا لكي نشهد على سينودسية متضامنة مع الذين تُركوا في الخلف، ضحايا الظلم والفقر وانعدام الأمان. إنَّ شعارنا هو ما قاله البابا بندكتس السادس عشر في رسالته العامة الأولى: “قلب يرى. هذا القلب يرى أين توجد حاجة إلى المحبة ويتصرف بناءً على ذلك”. وإذ يحملنا هذا الحب، سنفهم بشكل أفضل معنى تعليم القديس منصور دي بول: “أن تترك الصلاة لكي تزور مريض يعني أن تترك الله من أجل الله”.

وختم المطران بول روحانا عظته بالقول كحجاج “الرجاء الذي لا يخيِّب”، نرفع صلاتنا إلى الرب القائم من بين الأموات، الحاضر في كنيسته كما وعدنا، لكي نتمكّن من مواصلة مسيرتنا السينودسية، تحت نظره، اليوم وخلال يوبيل عام ٢٠٢٥، كتلاميذ مرسلين في زمن الأزمات، بواسطة شفاعة أمه وأمنا، مريم العذراء القديسة، وقديسي وشهداء جميع العصور. وعلى خطاهم، نجرؤ أن نقول: “المسيح قام حقًا قام” آمين.

(راديو الفاتيكان)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى