
مسيحيو العراق.. مهجرون من مدن تغيرت ملامحها.. “برطلة” كانت تحتضن آلاف العائلات المسيحية واليوم استوطنتها الجماعات المسلحة و90% من المسيحيين هاجروا إلى الأردن وتركيا ولبنان في ظروف اقتصادية سيئة
في أحد المقاهي الشعبية بمدينة زاخو، شمالي العراق، يجلس شمعون متأملا فنجان الشاي بين يديه، فمنذ 10 سنوات ترك مسقط رأسه، مدينة برطلة، ولم يعد إليها إلا في زيارات معدودة، ورغم تحريرها من قبضة تنظيم داعش، لم يجد المدينة التي نشأ فيها كما كانت، ولم يشعر بأنها لا تزال موطنه. شمعون، الذي وُلد وترعرع في برطلة ودرس فيها حتى أصبح معلما، اضطر إلى مغادرتها عام 2014 عندما اجتاحها داعش، كان يأمل أن تعود المدينة إلى سابق عهدها بعد التحرير، لكنه وجدها قد تغيرت تماما. و”المدينة فقدت روحها وثقافتها”، يقول بأسى، مشيرا إلى أن معظم أصدقائه وأبناء مجتمعه المسيحي هاجروا ولم يبقَ فيها إلا من لم يكن لديه خيار آخر. وقبل اجتياح داعش كانت “برطلة” تحتضن آلاف العائلات المسيحية، لكنها اليوم باتت، كما يصفها شمعون، “مدينة غريبة”، إذ استوطنتها جماعات تنتمي لفصائل مسلحة ترتبط بالحشد الشعبي، واشترت بيوت المسيحيين بأسعار زهيدة.
وهذا الأمر غير من تركيبتها السكانية، كما يقول شمعون، مضيفا أن الدخول إلى المدينة أصبح تجربة مريرة بسبب الحواجز الأمنية التي تفرض رقابة صارمة وتحدّ من حرية التنقل، ولم يعد شمعون يرى مستقبلا له في برطلة، فقرر بيع منزله بثمن بخس لشراء بيت جديد في زاخو، حيث يقيم الآن مع عائلته، ويقول: “هنا على الأقل، أشعر بالأمان”، بعيدا عن النفوذ المتزايد للميليشيات التي باتت تفرض واقعا جديدا على مدينته القديمة”.
الأغلبية يعيشون في سهل نينوى
معظم المسيحيين في العراق يعيشون الآن إما في منطقة سهل نينوى أو في إقليم كردستان، بحسب وحيدة ياقو، العضو السابق في برلمان إقليم كردستان عن المكون المسيحي، وتضيف ياقو: أن المسيحيين في سهل نينوى تعرضوا لموجتين من الهجرة، الأولى حدثت قبل تنظيم داعش وشملت المسيحيين الذين كانوا يسكنون في بغداد وبقية المحافظات الجنوبية، والهجرة الثانية كانت بعد مجيء تنظيم داعش حيث فرّ المسيحيون من محافظة نينوى ومناطق سهل نينوى باتجاه إقليم كردستان.
تقع منطقة سهل نينوى (تضم اقضية الحمدانية وشيخان وتلكيف) بين نهري دجلة غربًا والزاب الكبير شرقًا، وتفصل ما بين إقليم كردستان ومحافظة نينوى، وأغلب تلك المناطق تندرج تحت “المناطق المتنازع عليها” المشمولة بالمادة 140 من الدستور العراقي، وقد لجأ إليها المسيحيون بعد الهجمات المكثفة التي تعرضوا لها من قبل جماعات إرهابية عام 2008 في بغداد وجنوب العراق، بحسب “وحيدة ياقو”، فاقم اجتياح داعش من معاناة وجراح المسيحيين في العراق، فهذا التنظيم الإرهابي سيطر على بلداتهم وممتلكاتهم، ودمر كنائسهم واخذ الجزية منهم.
وتضيف “ياقوا” أن داعش أجبر المسيحيين على النزوح باتجاه مدن إقليم كردستان، وهاجرت آلاف العائلات إلى خارج البلاد، وبقي سهل نينوى خاليًا من المسيحيين خلال فترة سيطرة تنظيم داعش، لكن بعد تحرير المنطقة، عادت 70% من العائلات المسيحية إلى بلداتها، بحسب الناشط المدني “روند بولص” رئيس اتحاد الأدباء السريان في العراق، الذي أكد: أنه لولا تدخل المنظمات المدنية والدعم الكنسي لإعمار تلك البلدات والكنائس التي هدمها داعش “لما عادت أي عائلة مسيحية الى مناطقها”. لكن هذه المناطق حتى بعد تحريرها من سيطرة داعش إلا أنها مازالت تعاني من تحديات عديدة، أبرزها مدى ثقة المواطنين بالمليشيات التي سيطرت على سهل نينوى بعد طرد داعش. “بولص” أوضح أن وجود هذه المليشيات التابعة للحشد الشعبي، وتدخلها في شؤون تلك البلدات أجبر من جديد العديد من العائلات على ترك المنطقة “بعد أن باعت ممتلكاتها بأقل الأسعار”.
تتمركز في منطقة سهل نينوى قوات مشتركة من الجيش العراقي والشرطة المحلية، إلى جانب لواءين للحشد الشعبي هما اللواء 30 المعروف بـ”قوات سهل نينوى” وهو لواء خاص بالشبك ومتمركز الآن في قرية برطلة، واللواء 50 المعروف بـ”كتائب بابليون” التابع لحركة بابليون بزعامة (ريان الكلداني)، المدرج على لائحة الإرهاب الأميركي، وتتمركز هذه الميليشيا قرب قرية باطنايا، وتوجد خلافات كبيرة بين “الكلداني” والقيادات المسيحية في العراق، بسبب ولائه لإيران.
ويشكو المواطنون من وجود هذه الحشود العسكرية في مناطقهم، فلواء الشبك مثلًا سيطر على معظم ممتلكات المسيحين في برطلة، كذلك الحال مع لواء “كتائب بابليون” الذي استحوذ على مناطق واسعة من ممتلكات المسيحيين، ويتميز سهل نينوى بتنوع مكوناته، يعيش فيه المسيحيون والشبك واليزيديون والكرد والعرب والصابئة المندائيون والكاكائيون، لكن النسبة الأكبر هم من المسيحيين، وقد عاشت هذه المكونات مع بعضها في وئام طيلة الفترات السابقة بحسب وحيدة ياقو، موضحة أن المليشيات هي التي زرعت الفتنة بين أبناء هذه المكونات في سهل نينوى، وتشتهر منطقة سهل نينوى بكونها سلة العراق الغذائية، لوقوعها بين نهرين.
تغيرات ديموغرافية
من جانبه قال فارس يوسف رئيس مركز شلومو للتوثيق: إن المنطقة طرأت عليها تغيرات ديموغرافية كثيرة خلال السنوات الأخيرة بسبب “التجاوزات التي وقعت على أيدي القادمين إلى المنطقة وبنوا البيوت عشوائيا بهدف السيطرة على سهل نينوى”، ويضيف: أن حوالي 40% من المسيحيين قد هاجروا من العراق، والكثير منهم يعيشون الآن في الأردن وتركيا ولبنان في ظروف اقتصادية سيئة، موضحًا أن الهجرة “مازالت مستمرة”، بسبب غياب الأمن و”استحكام المليشيات” الموجودة هناك على مقدرات المواطنين.
وتوجد في سهل نينوى العديد من الأديرة والكنائس أكثرها تعرضت للدمار بسبب داعش، والمنطقة مازالت “منكوبة” وبحاجة إلى إعمار بحسب الباحث والأكاديمي السرياني إيفان جاني، الذي قال: إن هناك “فجوة عدم ثقة” بين أهالي سهل نينوى و”الشخصيات التي تمثل السلطات الإدارية والسياسية والأمنية المتحكمة هناك”.
المسيحيون أصبحوا أقلية بعد أن كانوا الأغلبية
وصار المسيحيون في هذه البلدات “أقلية” بعد أن كانوا يشكلون الأغلبية فيها، فبرطلة على سبيل المثال حدث فيها تغير ديمغرافي وأصبح الشبك هم الأغلبية على حساب المسيحيين، ويرجع “جاني” سبب ذلك إلى “عدم وجود تمثيل حقيقي للمسيحين في مؤسسات الدولة”، مشيرًا إلى أن وجود الميليشيات المتسببة بتلك التجاوزات، “ستحول المنطقة إلى ساحة لتصفية الحسابات وستكون ضحيتها الأقليات الموجودة هناك” حسب تعبيره.
وأكد حدوث تجاوزات مستمرة على ممتلكات المسيحيين في أغلب مناطق سهل نينوى، وأن هذا “تسبب بتهجير 90% من المسيحيين من العراق وبقاء 10% فقط”. موضحًا أن ما يحد من هجرة المسيحيين من العراق، هي العقبات التي تضعها الدول الأوروبية أمام المهاجرين، “فلولاها لخلى العراق من المسيحيين في فترة قياسية” بحسب تعبيره.
ويتكون سهل نينوى من ثلاثة أقضية تضم العديد من النواحي والبلدات ذات الأغلبية المسيحية مثل ألقوش وباقوفا برطلة كرمليس تلسقف وباطنايا، وتوجد أيضًا في هذه المنطقة قرى يسكنها الشبك واليزديون مثل باعذرة وبوزان وبازياوا وطوبزاوة، وجميعها بحاجة إلى إعادة إعمار وتأهيل ودعم حكومي، بحسب يونادم كنا الأمين العام للحركة الديمقراطية الأشورية.
واستكمل: أن التدخل الذي وصفه بـ”السافر” للمليشيات بشؤون هذه المناطق أدى إلى حصول “تغيير ديموغرافي” كبير، سيما في منطقة برطلة التي يهيمن عليها لواء الشبك التابع للحشد الشعبي، واستولى عليها من خلال “عمليات شراء قسرية لأراضي وممتلكات المسيحيين بأثمان بخسة”.
وأشار إلى أن: كنا إلى أن الأجندة السياسية في منطقة سهل نينوى وظفت الأشخاص بطريقة خطيرة، لاسيما الملف الأمني الذي تسيطر عليه مليشيات “محسوبة” على المسيحيين وتضم “أشخاص غير مسيحيين” في إشارة منه إلى “لواء بابليون” الذي يتزعمه ريان الكلداني.
وكان الكاردينال لويس ساكو بطريرك الكنيسة الكلدانية حذر مرارا من أنّ المسيحيين يعانون من تحدّيات كبيرة، أبرزها الهجرة، والتهميش، والبطالة، والاستحواذ على مقدراتهم، والتي أدت بالكثير منهم الى الهجرة للخارج.
ودعا ساكو الحكومة العراقية إلى تسليم الملف الأمني في بلدات سهل نينوى لقوات الشرطة الاتحادية و”حراسات” من أبناء تلك المناطق، في إشارة منه إلى إبعاد الميليشيات التي تتسبب بمضايقة سكان المنطقة.
وأصدر رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، توجيها في 26 يناير “بدمج” المزيد من أبناء المكون المسيحي في صفوف الشرطة المحلية بمحافظة نينوى، موضحًا أن تحقيق ذلك يعد خطوة مهمة لتعزيز الوحدة الوطنية واحترام التنوع في العراق، حسب تعبيره.
ويرى الأمين العام للحركة الديمقراطية الآشورية يونادم كنا أن على الحكومة العراقية تعديل قانون الانتخابات الخاص بكوتا المسيحيين لضمان حصر التصويت على المسيحيين “ليحصلوا على ممثلين حقيقين منهم وفيهم”.
وقال كنا: إن قانون الانتخابات الحالي “يظلم المكونات” لأنه يسمح للأحزاب الكبيرة الاستحواذ على مقاعدهم من خلال “زجّ ممثلين مسيحيين منتمين لهم والتصويت لهم من خلال أشخاص غير مسيحيين، وهؤلاء يدينون بولائهم لأحزابهم وليس للمسيحيين حسب تعبيره.
وذكر كنا: أن هذه الإشكالية أدت إلى فقدان ثقة المسيحي بالحكومة والسلطات، والهجرة إلى خارج البلد، معربًا عن خشيته من أن تؤدي هذه الحالة “إلى تفريغ المنطقة من المسيحيين الذين يعدّون أحد مكوناته الأصيلة”، يذكر أن غالبية المسيحيين الموجودين في منطقة سهل نينوى يتبعون الكنيسة الكلدانية التي يقودها الكاردينال لويس ساكو.
(عنكاوا)