أخبار مشرقية

سوريا جامعة الأديان تبحث عن وجهها المسيحي.. تقلص نسبة المسيحيين من 10 إلى 1% وأصبحوا أقلية بعد أن كانوا شعبًا

كانت نسبة المسيحيين في سوريا عشية الحرب عام 2011 ما بين 8 و10% حسب مراكز أبحاث متعددة، وبدا حينها الرقم منطقياً لأقلية كبرى تحافظ على وجودها ونموها بشكل مستقر خلال عقود طويلة من الهدوء، وقتذاك كان تعداد السوريين عامة نحو 24 مليون نسمة بحسب المكتب المركزي الرسمي للإحصاء، الذي يتبع رئاسة مجلس الوزراء.

تلك الأرقام كانت تعني أن تعداد المسيحيين في حينه تقل عن مليونين ونصف المليون بقليل، وهو رقم يجعل من المسيحيين أقلية ذات شأن قياساً ببقية الأقليات الأخرى التي تشاركها المساحة الجغرافية الكاملة للبلاد، مع تموضع واسع لهم في حلب ودمشق وحمص وشمال شرقي سوريا بصور رئيسة، واحتفاظهم بوجود تاريخي خجول في مدن وأرياف أخرى.

هل كان سينجو المسيحيون من الحرب؟

مع اندلاع الأحداث في سوريا بدأت المعالم الجغرافية والديموغرافية تتغير على نطاق واسع تباعًا، وبدأت معها موجات هجرة أوسع لم تتوقف حتى اليوم، تلك الموجات كانت تنخفض وترتفع وتيرتها تبعاً للظروف الميدانية العامة المحيطة، من أحداث عسكرية وأمنية وسياسية، لكن مجمل تلك الظروف لم تتمكن من إحداث فرق منظور في الهجرة كما فعلت الأعوام التي تلت 2020، وهو للمفارقة عام الاستقرار العسكري، وعام الانهيار الاقتصادي والمجاعة الطاحنة وهبوط مجمل الأسر السورية إلى ما دون خط الفقر بنسبة تجاوزت 90% بحسب ما أكدته الأمم المتحدة في أكثر من مناسبة.

في الآونة الأخيرة أعادت بعض مراكز الدراسات إجراء دراسات تبحث في تعداد من بقي من المسيحيين في سوريا حتى 2024، خلصت معظمها إلى أن النسبة اليوم لا تتجاوز 1 إلى 2% من مجمل السكان، وفي السياق أوردت منظمة “Aid to the church in need” الخيرية الكاثوليكية ومقرها هولندا في تقرير لها أن تعداد المسيحيين تراجع إلى نحو 300 ألف مواطن فقط، وهو ما كان يحتاج تدقيقاً مع مصادر كنسية سورية ومصادر أخرى تعنى بالتوثيق.

وبمعزل عن التقرير الهولندي، وبأخذ الاعتبار حول الإجماع عن النسبة الفعلية للمتبقين في سوريا (1 إلى 2%)، فيمكن النظر إلى أحدث دراسة للمكتب المركزي الرسمي للإحصاء التي تتحدث عن أن تعداد سوريا العام وصل إلى 29 مليون نسمة في العام الحالي، ووفق نظام النسبة والتناسب فإن ذلك يعني أن التعداد الفعلي في نسبته العليا يقارب وجود 600 ألف مسيحي متبق فقط، وهو رقم تمكنت “اندبندنت عربية” من مطابقته مع مراجع كنسية محلية على تواصل مع كنائس أخرى حول العالم ترعى وتراعي وجود المسيحيين في سوريا وطرق هجرتهم وتحول من بقي منهم إلى ما دون أقلية فعلية، فما حقيقة الأسباب؟

مهد المسيحية

لتوضيح ذلك التحول الرهيب في الواقع المسيحي على الأراضي السورية التقت “اندبندنت عربية” كاهن كنيسة السيدة أم النور التي تتبع مطرانية الروم الأرثوذكس في حمص، وكان اختيار حمص وكنيسة فيها يعود لأسباب تتعلق بكون المدينة تتصدر مشهد أكثر المدن الشاهدة على الحرب بدمارها ودمائها ومهجريها، وكذلك الوجود المسيحي الفاعل بها قبل الحرب، علاوة على احتضانها صروحاً وأديرة كنسية ترجع إلى العصر المسيحي الأول بكل ما يعنيه من قداسة عالمية دينية.

فضل كاهن الكنيسة الأب يوحنا يوسف استهلال حديثه بتقديم مراجعة تاريخية يراها ضرورية حول الوجود المسيحي في سوريا وامتداده المتلاحق كمكون أصيل في عمق الشرق الأوسط بقوله، إن “الحديث عن الوجود المسيحي في الشرق وتحديداً في سوريا يعود إلى بداية انتشار الإيمان المسيحي، أي إلى القرن الأول لنشأة المسيحية، وهذا ما يؤكده سفر أعمال الرسل في الكتاب المقدس، وعلى مر العصور، المسيحيون المشرقيون كانوا دائماً مشاركين في بناء هذا الشرق على جميع الصعد (الفكرية والاجتماعية والاقتصادية) وكانوا مع إخوتهم في الوطن متلازمين في وحدة المصير”.

تاريخ الهجرة وممهداته

وحول ما لحق المسيحيين من الهجرة في الحرب الأخيرة، التي باتت ممتدة لما يقارب عقداً ونصف العقد وما نتابعه في أيامنا هذه من حملات هجرة يراه الكاهن أمراً مثيراً للقلق، وموضوعاً مهماً في تفكيك النسيج الإنساني والوطني في هذه المنطقة من العالم، وهو أمر مطلوب البحث في أسبابه ونتائجه على جميع المستويات.

وفي الأسباب والنتائج يرى رجل الدين أن موضوع هجرة المسيحيين طاول سوريا ومعظم دول جوارها، لكنه يفضل رواية القصة السورية بوصفه شاهد عيان عليها، وفي هذا الإطار يوضح حول الهجرة التي بدأت داخلياً أنه “مع اندلاع الأحداث المشؤومة في سوريا 2011، وتحويل وطني، بلد السلام والأمان إلى منطقة ملتهبة بالاضطرابات وضرب حالة السلم الأهلي وتدمير للبنى التحتية والخدمية والتربوية. حاول المسيحيون اللجوء إلى الأماكن الأكثر أماناً ضمن سوريا، بحثاً عن الأمان ورغبة في متابعة حياتهم بعيداً من كل مؤامرات الدخلاء على هذا الوطن الذين أرادوا تدميره، وإيقاف عجلة التطور الحضاري التي كان يعيشها قبل 2011، هذا ما نستطيع أن نسميه في مرحلة الحرب التي كنا نعيشها في وطننا هجرة داخلية للمسيحيين”.

وفي ملف بدايات الهجرة نحو الخارج يستطرد “لكن لم يخلُ الأمر من بعض الأشخاص الذين مع طول أمد الحرب بدأوا في التفكير بالهجرة خارج الوطن بحثاً عن استقرار اقتصادي وأمني. والحقيقة أن هذه الهجرة الخارجية في تلك المرحلة المبكرة من الحرب كانت بنسب قليلة. والسبب يعود إلى أن دول الخارج لم تكن تقدم لهم التسهيلات لدخول أراضيها، بالتالي كان لا بد للراغبين في الهجرة من المغامرة بأرواحهم للوصول إلى بلاد الغرب من طريق الهجرة غير الشرعية”.

سوريا نحو اللامسيحيين

إبراهيم دلمة الحائز على إجازة الدكتوراه في علم الأديان يوضح لـ”اندبندنت عربية” أن ما يحصل هو ضرب للشرق في عمق محتواه الديموغرافي، وتحديداً عبر مسيحييه الذين كانوا يتنامون بصورة منطقية في العقود الماضية، أما اليوم فيجب طرق جرس للإنذار والسؤال حول إمكانية استقطاب هؤلاء المواطنين وإعادتهم مجدداً إلى بلدهم، وخصوصاً أننا الآن أمام مرحلة مغرقة في الغموض وفي خلاصتها نمتلك آراء مبنية على دراسات بحثية تفيد بأن استمرار هذا النزف المهاجر سيجعل سوريا بحلول عام 2040 إلى 2050 خالية من المسيحيين، وربما قبل ذلك، فمن بقي من المسيحيين اليوم لا تتجاوز أعدادهم 500 إلى 600 ألف بأفضل الأحوال، وهذا يعني شيئاً واحداً وهو (أفغانستان أخرى) بلون واحد”.

الأكاديمي إبراهيم أوضح أنه خلال دراسة مشتركة مع زملائه لم تبصر النور لأسباب مختلفة اكتشفوا أن الوجود المسيحي في عاصمتهم شمال البلاد، مدينة حلب، تضاءل من أكثر من 500 ألف عام 2011، إلى حدود 25 ألفاً عام 2024 ويتضمن هذا الرقم الأرمن الذين هربوا من الإبادات التاريخية واستوطنوا في سوريا، مستخدماً مصطلح “كارثة قومية وعرقية”.

الباحث كشف عن أنه وخلال بحثه وتواصله مع العائلات المسيحية والمصادر الكنسية تبين له أن الفاتيكان قد دق الإنذار مبكراً منحياً خلافات تاريخية عمرها قرون في سياق المجامع التاريخية مع كنائس الشرق، ليقرر دعم الأرثوذكس في سوريا ومعه كنائس أوروبية كثيرة أبرزها في هولندا وألمانيا التي تعمل بشكل مؤسساتي في هذا السياق أكثر منه ديني مباشر لتوسع أعمالها في الاشتمال على دعم المسيحيين والمسلمين لإحداث ثغرة تغلق تنامي الهجرة العامة التي تؤثر بمجملها على الحال العام، وبالمطلق تخلق حالة من عدوى الهجرة، إلا أن ذلك الدعم العيني والمالي ليس كافياً ولن يكون كذلك أمام احتياج ملايين الأسر، ما لم تحصل طفرة سريعة عنوانها رفد الاقتصاد من الداخل لإعادة من هم في الخارج نحو حياة كريمة وسليمة وآمنة.

يتوافق حديث الباحث في التاريخ مع الكاهن الذي يوضح أن “الذي جعل الهجرة تتنامى بعد عام 2019 هو أن الحرب الاقتصادية التي بدأت على سوريا من خلال العقوبات الأوروبية والأميركية الممنهجة والمدروسة بطريقة دقيقة لوقف حركة النمو الإنساني والاقتصادي في هذا البلد، هي العامل الأساس لدخول أبناء الوطن بصورة عامة والمسيحيين منهم خصوصاً في مرحلة اليأس والإحباط وعدم القدرة على تأمين أبسط سبل العيش، وكذلك الدخول في مرحلة الرغبة بالبحث عن مستقبل جديد، يستطيع من خلاله المواطن أن يبني حياته ومستقبل أولاده”.

ويكمل، “تطور الأمر لمرحلة فرض قانون أميركي جائر سموه (قيصر)، أرادوا من خلاله تدمير كل أفق أمل لدى الإنسان السوري بإمكانية العيش في وطنه، وتداعيات هذا القانون على الإنسان السوري جعلته غير قادر حتى ولو امتلك المال أن يستثمر هذا المال ضمن وطنه. على سبيل المثال (أصحاب المصانع غير قادرين على إصلاح معاملهم بسبب العقوبات، والتجار غير قادرين على تصدير أو استيراد بضائعهم بسبب عقوبات قيصر، وعلى مثال ذلك كثير). لقد أغلقوا كل أبواب الأمل أمام المواطن السوري في أن يعيش بكرامته في وطنه”.

إفراغ الشرق من مسيحييه

في هذه المرحلة الزمنية بدأت دول كثيرة تؤمن هجرة آمنة للمسيحيين على وجه الخصوص، وهو ما استهجنته ورفضته الكنائس السورية، وعدته نوعاً من التعدي على الخصوصية التاريخية لبلدهم، ليحمل الكاهن التابع لمطرانية حمص المسؤولية لتلك الدول كشريكة في إحداث الفوضى.

وعن ذلك يوضح، “بدأنا نرى دول أوروبا وكندا وغيرها، تفتح أبواب الهجرة وتقدم التسهيلات لخروج السوريين بصورة عامة والمسيحيين خصوصاً، فتقديم المنح الجامعية للطلاب السوريين وتسهيل سفر النخب العلمية (الأطباء والمهندسين) وتأمين بيئة خصبة للمستثمرين، إضافة لإمكانية الحصول على الجنسيات للمواطنين السوريين لنزع هويتهم الأصيلة، كانت كلها من بين الأسباب التي رفعت نسبة الهجرة بصورة كبيرة، وبتنا منذ ذلك الوقت نسمع كل يوم عن هجرة عائلات بأكملها من المسيحيين وإفراغ لرعايا مسيحية من مؤمنيها بشكل مقلق، وبتنا لا نرى إلا أخيار شبابنا يودعوننا كل يوم”.

في سياق الحدث يبدو الخوري يوحنا متمسكاً بربط السياسة الغربية وطرق تنفيذها اللوجيستي على الأرض بمخطط أبعد من مجرد حرب عسكرية، إذ يرى أن المحاولة التي جرت ولا تزال لإفراغ الشرق من مسيحييه هي أخطر عناوين كل مفصل في الحرب السورية، وبدأ ذلك من حرمان السوريين من كل مواردهم الاقتصادية والمالية عبر “احتلال” شرق الفرات من قبل الأميركيين وأذرع أخرى في المنطقة.

كان حديث الأب يوحنا مشابهاً لحديث أكثر من رجل دين مسيحي استمعت إليه “اندبندنت عربية” مما يوضح تماهياً تاماً بين الكنائس التي تستشعر خطر ما آلت إليه الأمور بفقدان رعيتها كما لم يكن متوقعاً في أصعب الظروف، إذ أكدت مصادر كنسية أخرى أنها لم تدخر جهداً في محاولة استبقاء المسيحيين عبر كل ما يمكن فعله بالتضافر مع الحكومة السورية التي قدمت كل التسهيلات الممكنة والمطلوبة خلال كل سنوات الحرب، لكن رغبة الجيل الشاب بالهرب من جحيم الحرب والحاجة كانت أقوى انطلاقاً من الغريزة الإنسانية المنتمية والمريدة للحياة الآمنة والمستقرة.

قد يبدو من المنطقي أن تقف المؤسسات الدينية على الحياد السياسي النسبي في الأزمات المركبة، لكن ظروفاً طارئة وخطرة استدعت تبني مواقف داخلية تسترعي أن فقدان العنصر المسيحي في سوريا يعني ضياع الدور الكنسي التاريخي – التوازني الذي عهده السوريون، وتالياً يعني ذلك أن تصبح رؤوس الكنائس بلا رعايا، كما هو حال بطريرك الفنار في تركيا والذي يترأس الكرسي الديني من دون رعايا فعليين ويمنع عليه ممارسة أي نشاط سياسي أو الانخراط فيه، فالبطريرك المقيم في تركيا لا تعترف فيه أنقرة نفسها، ويعود ذلك لمرحلة الإبادة الأرمنية – المسيحية في القرن الماضي.

وتضم سوريا ثلاثة كراسي بطريركية تاريخية وهي بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس وبطريركية السريان الأرثوذكس وبطريركية الملكيين الكاثوليك، مع كثير من المطرانيات والكنائس والذين يتبع لمجملهم الملايين حول العالم.

(اندبندنت عربية)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى