البابا فرنسيس: يسوع ينادينا باسمنا وينظر في أعيننا ويسألنا: هل يمكنني الاعتماد عليك؟
“إنَّ الكاردينال يحب الكنيسة، دائمًا بالنار الروحية عينها، سواء في التعامل مع المسائل الكبيرة أو في التعامل مع المسائل الصغيرة؛ سواء من خلال لقاء عظماء هذا العالم، أو الصغار، الذين هم عظماء أمام الله” هذا ما قاله قداسة البابا فرنسيس في كلمته مترئسًا كونسيستوارًا عاديًا عامًا لتعيين واحد وعشرين كاردينالاً جديدًا
وللمناسبة ألقى الأب الأقدس كلمة قال فيها إن قول يسوع هذا في منتصف إنجيل لوقا، يضربنا مثل السهم: “جئت لألقي على الأرض نارا، وما أشد رغبتي أن تكون قد اشتعلت!”. بينما كان في طريقه مع التلاميذ إلى أورشليم، قام الرب بإعلان بأسلوب نبوي نموذجي، مستخدمًا صورتين: النار والمعمودية، النار التي عليه أن يحملها إلى العالم، والمعموديّة التي عليه أن ينالها. سآخذ فقط صورة النار، التي هي هنا الشعلة القوية لروح الله، إنه الله نفسه كـ”نارٍ آكلة”، حبٌّ شغوف ينقّي، ويجدد، ويحوِّل. كل شيء. هذه النار – كما هي “المعمودية” أيضًا – تظهر بشكل كامل في سر المسيح الفصحي، عندما يفتح، كعمود مُتَّقِد، طريق الحياة عبر بحر الخطيئة والموت المظلم.
تابع البابا فرنسيس يقول ولكن هناك أيضًا نار آخر، نار الجمر؛ ونجدها في يوحنا، في رواية الظهور الثالث والأخير للمسيح القائم من الموت للتلاميذ، عند بحيرة الجليل. كان يسوع قد أشعل هذه النار الصغيرة بالقرب من الشاطئ، بينما كان التلاميذ على متن القوارب يسحبون الشبكة التي امتلأت بالأسماك. ووصل سمعان بطرس أولاً وهو يسبح ممتلئًا بالفرح. إنَّ نار الجمر وديعة وخفيّة ولكنها تدوم لفترة طويلة وتُستَخدم للطبخ. وهناك، على شاطئ البحيرة، تخلق جوًّا عائليًّا حيث يستمتع التلاميذ مدهوشين ومتأثِّرين بالعلاقة الحميمة مع ربهم. سيساعدنا أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، في هذا اليوم، أن نتأمل معًا انطلاقًا من صورة النار بشكلها المزدوج؛ وأن نصلي في ضوئها من أجل الكرادلة، بشكل خاص من أجلكم، أنتم الذين تنالون منها في هذا الاحتفال الكرامة والرسالة.
أضاف الأب الأقدس يقول بالكلمات التي ينقلها إلينا إنجيل لوقا، يدعونا الرب مرة أخرى لكي نضع أنفسنا خلفه، ونتبعه في طريق رسالته. رسالة نار – مثل رسالة إيليا – سواء فيما يتعلق بما أتى من أجله أو كيف فعل ذلك. وبالنسبة لنا، نحن الذين قد أُخذنا في الكنيسة من بين الناس من أجل خدمة خاصة، يبدو الأمر كما لو أن يسوع قد سلّمنا الشعلة المضيئة قائلاً: خذوا، “كما أرسلني الآب أرسلكم أنا أيضا”. هكذا يريد الرب أن ينقل إلينا شجاعته الرسولية، وغيرته لخلاص كل إنسان، بدون استثناء أحد. يريد أن ينقل كرامته إلينا، ومحبته التي لا تعرف الحدود والتحفظات والشروط، لأن رحمة الآب تتَّقِد في قلبه. وداخل هذه النار هناك أيضًا توق سرِّي خاص برسالة المسيح، بين الأمانة لشعبه، لأرض الميعاد، وللذين أعطاهم الآب له، وفي الوقت عينه، الانفتاح على جميع الشعوب، على أفق العالم، على الضواحي التي لا تزال غير معروفة. هذه النار القوية هي التي حركت الرسول بولس في خدمته الدؤوبة للإنجيل، في “سباقه” الرسولي الذي قاده ودفعه الروح القدس والكلمة دائمًا إلى الأمام. إنها أيضًا نار العديد من المرسلين والمرسلات الذين اختبروا فرح البشارة المتعبة والعذبة، والذين أصبحت حياتهم إنجيلاً، لأنهم كانوا شهودًا. هذه، أيها الإخوة والأخوات، هي النار التي جاء يسوع “ليلقيها على الأرض”، والتي يشعلها الروح القدس أيضًا في قلوب وأيدي وأقدام الذين يتبعونه.
تابع البابا فرنسيس يقول مِن ثَمَّ هناك النار الأخرى، نار الجمر. هذه أيضًا يريد الرب أن ينقلها إلينا، لكي نتمكن مثله بوداعة وأمانة وقرب وحنان من أن نجعل الكثيرين يستمتعون بحضور يسوع الحيِّ في وسطنا. حضورٌ واضح، حتى في السِّر، بحيث لا داعي لأن نسأل: “من أنت؟”، لأن القلب نفسه يقول لنا إنه هو، إنه الرب. هذه النار تتَّقد بشكل خاص في صلاة العبادة، عندما نقف بصمت بالقرب من القربان المقدس ونتذوق حضور الرب المتواضع والخفي مثل نار الجمر، فيصبح هكذا هذا الوجود غذاء لحياتنا اليوميّة. تجعلنا نار الجمر نفكر، على سبيل المثال، في القديس شارل دي فوكو: بإقامته لفترة طويلة في بيئة غير مسيحية، في عزلة الصحراء، مركِّزًا كلَّ شيء على الحضور: حضور يسوع الحي، في الكلمة وفي الإفخارستيا وفي حضوره الأخوي والودي والمحب. ولكنها تجعلنا نفكر أيضًا في أولئك الإخوة والأخوات الذين يعيشون التكرُّس العلماني في العالم، ويغذون النار المنخفضة والدائمة في بيئات العمل، وفي العلاقات الشخصية، وفي لقاءات الأخويات الصغيرة؛ أو، ككهنة، في خدمة مثابرة وسخية، بدون صخب، بين أبناء الرعية. ومن ثمَّ، أليست نار الجمر هي التي تُدفئ يوميًّا حياة الكثير من الأزواج المسيحيين؟ تُنعشها الصلاة البسيطة في البيت، مع تصرفات ونظرات حنان، والحب الذي يرافق الأبناء بصبر في مسيرة نموهم. ودعونا لا ننسى أيضًا نار الجمر التي يحرسها المسنون: موقد الذاكرة، سواء في العائلة أو في المجال الاجتماعي والمدني. كم هي مهمّة مجمرة المسنين هذه! تتجمع العائلات حولها، وتسمح لنا بأن نقرأ الحاضر في ضوء الخبرات الماضية وأن نقوم بخيارات حكيمة.
أضاف الأب الأقدس يقول أيها الإخوة الكرادلة الأعزاء، في ضوء هذه النار وقوتها، يسير الشعب المقدس والأمين، الذي أُخذنا منه والذي أُرسِلنا إليه كخدام للمسيح الرب. ماذا تقول نار يسوع المزدوجة هذه لي ولكم بشكل خاص؟ يبدو لي أنها تُذكرنا بأن الرجل الذي يتمتّع بغيرة رسولية تحرّكه نار الروح القدس لكي يعتني بشجاعة بالأشياء الكبيرة والصغيرة على حد سواء. إنَّ الكاردينال يحب الكنيسة، دائمًا بالنار الروحية عينها، سواء في التعامل مع المسائل الكبيرة أو في التعامل مع المسائل الصغيرة؛ سواء من خلال لقاء عظماء هذا العالم، أو الصغار، الذين هم عظماء أمام الله. أفكر، على سبيل المثال، في الكاردينال كازارولي، المعروف بنظرته المنفتحة لدعم، بالحوار الحكيم، الآفاق الجديدة لأوروبا بعد الحرب الباردة – والعياذ بالله أن يُغلق قصر النظر البشري مرة أخرى تلك الآفاق التي فتحها! ولكن في نظر الله، تحمل القيمة عينها تلك الزيارات التي كان يقوم بها بانتظام للشباب المحتجزين في سجن الأحداث في روما، حيث كان يُعرف بالأب أوغسطينوس. وما أكثر الأمثلة من هذا النوع التي يمكننا أن نعطيها! أتذكر الكاردينال فان توان، الذي دُعي لرعاية شعب الله في سيناريو حاسم آخر من القرن العشرين، وفي الوقت عينه تحرّكه نار محبة المسيح لكي يعتني بروح السجان الذي كان يحرس باب زنزانته.
وختم البابا فرنسيس كلمته بالقول أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، دعونا نعود بنظراتنا إلى يسوع: هو وحده يعرف سر هذه الشهامة المتواضعة وهذه القوة الوديعة وهذه الشمولية المُتنبِّهة للتفاصيل. سر نار الله التي تنزل من السماء وتنيرها من طرف إلى آخر وتطبخ ببطء طعام العائلات الفقيرة أو المهاجرين أو المشردين. يريد يسوع أن يلقي هذه النار على الأرض اليوم أيضًا؛ يريد أن يشعلها مرة أخرى على ضفاف قصصنا اليومية. هو ينادينا باسمنا وينظر في أعيننا ويسألنا: هل يمكنني الاعتماد عليك؟.
(المصدر راديو الفاتيكان)