
ليس ردًا عليه بل بيانًا لأولى الأمر – الأنبا أنطونيوس عزيز
سيدى الفاضل الدكتور باسم عادل…
قرأت بحرص وتمعن شديدين ورغبة في التحصيل ما ورد من أفكارٍ ومعانٍ في مقالكم “فتوى وقانون ودستور: حوار مفتوح مع الأنبا أنطونيوس” بتاريخ 22 مايو 2025 في جريدة الدستور الغراء، وأشكركم على مديحكم وتقريظكم الذى أرجو أن أكون من أهله، فأنا لست عالما ولا فقيها، وتخصصي هو في القانون الكنسي، إنما دعيت لتقديم مدخل للشريعة الإسلامية لطلاب الكلية، مما دفعني للبحث والدراسة في كتب علم أصول الفقه الأصيلة والقواعد الفقهية المعتمدة، وأصدقكم القول، أحسست بعودتي طالبًا يحضّر رسالته، وقبل أن أتصدى لهذه المهمة عرضت نتيجة بحثى على عدد من أساتذة الشريعة الإسلامية، ووجدت فيهم جميعًا كل تشجيع، وحرصت على أن آخذ بعين الاعتبار جميع ملاحظاتهم.
كما استعنت بخبرتي كعضو فى لجنة الخمسين لصياغة دستور 2014، وساعدتني هذه الخبرة على دراسة معنى “مبادئ الشريعة الإسلامية” المذكورة فى الدستور، وتحديد معناها كما ورد في الديباجة. سألوني أيامها: هل أنت هنا للدفاع عن حقوق المسيحيين؟ فقلت كلا بل للدفاع عن حقوق المصريين، الذين إن حصلوا على حقوقهم حصلت أنا وكل المصريين مسيحيين ومسلمين عليها. فحقوقنا كمواطنين مصريين متساوية. وما يمس أي مواطن مصري يمس جميعهم.
سيدي الفاضل، لم يكن معنى سؤالي “وحضرتك رأيك إيه؟” دعوة لإبداء الرأي فيما أقول، فخطر القول والرد أن يحمل كل منهما في طياته تفسيرات شخصية تبتعد كثيرا عن قصد الكاتب، أو تحمّله ما لم يقل، فضلا عن نقل عكس ما قصد أحيانا.
كانت الدعوة نداءً لإبداء الرأي في موضوع صدور قانون تنظيم الفتوى من عدمه. وإن كان لا بد من صدوره فبأي شكل. هذا كان هدفي: دعوة للتفكير في موضوع يمس، حسبما أعتقد، حياة كل مواطن مصري، لا إخوتي المسلمين وحدهم. ومن الظاهر أنني نجحت فمقالكم أبهى دليل.
عرضت رأيي، راجيًا أن يعرض الآخرون آراءهم، ففي ذلك غنى وتنوير وتوعية، بدل غيبة العقل التي وقعنا فيها، ولم يكن قصدي بالتأكيد أن نتبادل الردود بعضنا على بعض.
أكرر إنه ليس من عادتي الرد على من يكتب محللا ما كتبت. فلا أجد فائدة من الجدل، لذلك أؤكد لكم، سيدي الفاضل، أنى لم أقصد الرد بل قصدت توضيح ما كان غامضا فيما كتبت، وبيان ما كنت أعتبره بديهيا ولم يكن كذلك واقعيا. وأكتب مهتديا بما يثيره مقالكم من نقاط مهمة، تستدعى كل منها التفكير العميق الهادئ، ملقيا ولو ضوء شمعة أولا للقارئ المتابع لما كتبت، ثم لولى الأمر وأقصد به السلطة التشريعية في البلاد، مجلس النواب ومجلس الشورى، وحارس الدستور رئيس الجمهورية.
لم أكتب سابقا ولا أكتب الآن إلا دفاعا عن حرية الفكر وبالتالي حرية التعبير عنه، ودفاعا عن حرية العقيدة وما يتبعها من حرية ممارسة الشعائر الدينية، ودفاعا عن حرية تكافؤ الفرص، وكلها حريات كفلها الدستور لكل مواطن مصري بصرف النظر عن الجنس واللون والدين والعرق.
بالرجوع لقانون تنظيم الفتوى، أرى بداية أن الفتوى الخاصة هي نوع من الإرشاد الديني، تخص من صدرت له دون غيره، في زمانه ومكانه، إن تلقاها بالقبول، ويحق لمن طلبها أن يطلب غيرها، وأن يفاضل بينها وبين غيرها، والضابط فيها هو ضمير المتلقي وعقله ووجدانه، وما سمح له الله به من معرفة، لذلك تخرج عن نطاق قانون انضباط الفتوى، فيكفي إن كان لا بد من صدور هذا القانون أن يقرر أمور الفتوى العامة فقط.
وأقترح أن يصدر القانون بهذا العنوان “قانون انضباط الفتوى العامة”. حسب ما يلبى غرض من ينادى بصدور هذا القانون. فإذا كان وضع قواعد لمن يريد أن يتصدى للفتوى شيئا مهما وضروريا وحيويا للقضاء على فوضى الفتيا فإن تنظيم الفتوى بهذا القانون يعطى انطباعا بالسماح للبعض دون البعض بهذا الحق، حق التفكير والتدبر، وحق إبداء الرأي، وحق تكافؤ الفرص بين كل من حاز على درجة علمية مماثلة لأعضاء لجان الفتوى المذكورين في مشروع القانون.
كما يجب أن يقتصر القانون على ضوابط الفتوى، وأعنى أن تحقق مصلحة أو تدرأ مفسدة، وأن تستند إلى أدلة شرعية، وألا تخالف النظام العام الذي يحرسه رئيس الدولة، وغيرها من الشروط العلمية والمماثلة، وأن ينأى بنفسه عن تحديد من له ومن ليس له أن يتصدى للفتوى، وعن فرض العقوبات التي نص عليها، فالرأي لا يرده إلا رأى أقوى منه، والتاريخ يعلمنا أن إخراس الفكر وكبته لم ينجح أبدا فى قتله، ولم تمت أبدا فكره نافعة.
فهل يعقل- كما فسر بعض واضعي القانون- أنه إذا وضّح أستاذ فقهٍ متخصص، الآراء المذهبية الفقهية، في أمر حياتي يخص المعاملات بين البشر، ونقل بكل أمانة المذاهب الفقهية المختلفة التي يتم تدريسها لطلاب الأزهر في الجامعة- فإنه يعد بذلك مفتيا فتوى عامة ويعاقب بالحبس أو الغرامة؟ رغم أنه لم يحسم هذه الآراء في رأى واحد؟ وكأنه مكتوب على أبناء هذا الشعب أن يجهل ما يتعلمه بعض أبنائه في الأزهر.
في حديث لوزير الشئون النيابية المستشار محمود فوزى مساء يوم الأحد 11 مايو، مع الأستاذ عمرو أديب فى برنامج الحكاية يقول تعقيبًا على موافقة مجلس النواب في صباح ذات اليوم على إصدار قانون الفتوى الشرعية العامة والخاصة، ما معناه أن الفتوى العامة تشمل الإفصاح عن الآراء الفقهية المتعددة في أي مسألة فقهية مطروحة، كما لو ذكر أستاذ فقه متخصص في وسيلة إعلامية آراء الفقهاء أو المذاهب الفقهية المختلفة، في مسألة عبادية أو معاملتية دون أن يرجح الرأي الذى اختارته لجان الفتوى الرسمية، فيعرض نفسه لعقوبة الحبس أو الغرامة.
إن صدور قانون الفتوى الذي يضع إطارًا قانونيًا مدنيًا، للفتوى أو للرأي الموصوف بالشرعي، من لجان بعينها، يهدم المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن “مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع”، فهذه المبادئ تفتح باب الاجتهاد واسعا لكل أحد، شريطة أن يكون رأيه الاجتهادي أو فتواه متوافقا مع تلك المبادئ السمحة من المساواة والعدل والتراضي والشفافية وتكافؤ الفرص وغير ذلك من أخلاقيات فطرية، فقانون الفتوى سيمنع كل ذلك ويجعل من له حق إبداء الرأي هو فقط من كان عضوا في تلك اللجان.
هذا القانون يضيف الفتوى العامة إلى مبادئ الشريعة الإسلامية، في مصادر التشريع المصري، وبهذا يكون تعديلا للدستور دون استفتاء الشعب من حيث لا ندرى.
لا أريد الدخول في الجدل بين الشرعي وبين الفقهي، فوصف الفتوى بأنها فقهية منضبط أكثر أمانة وصدقا من وصفها بأنها شرعية، أقول هذا حرصا على الانضباط، لتحقيق أهداف هذا القانون. وعموما الفتوى موصوفة كانت بالشرعية أو بالفقهية مجالها الكلام فى الحلال والحرام لا المنع والإتاحة، الذي هو مجال القانون الوضعي في الدولة، فالدولة لا تتدخل فى الحلال والحرام الأخرى، وإنما تتعامل فى مسائل الحياة بالمنع والإتاحة وفق قانون المصلحة والمفسدة؛ لأنها تقف على مسافة واحدة من مواطنيها.
يكاد قانون تنظيم الفتوى أن يقع في مزلقة صبغة الفكر البشرى بسمة إلهية، فلا يخفى على مؤمن الفرق بين كلام الله وبين كلام البشر أي بين النص الشرعي المقدس وبين فقه هذا النص البشرى الذي يحتمل الصواب والخطأ. وهذا الخلط بين الإلهي والبشرى يفتح الباب لدس ما يقوله الفقيه ببشريته وتقديمه على أنه كلام إلهي مقدس.
وننوه أنه في حال صدور القانون، لا يمكن أن تكون الفتوى العامة إلا إجبارية لكونها أحادية، ويخاطب بها المجتمع كله، مسلميه ومسيحيه؛ لأن القانون يصدر باسم الشعب وليس باسم الشعب المسلم، ولأن الذين صوتوا على إصداره نواب الشعب من المسلمين والمسيحيين معا؛ حيث لم يعلَن النداء على النواب المسيحيين بالخروج من القاعة أثناء التصويت.
وعلى سبيل المثال فإنه عندما تصدر بعض الفتاوى العامة مثل فتوى حجاب المرأة، وفتوى زي المصطافين على الشواطئ، وفتوى التعامل في العقود المستقبلية، وفتوى التعامل بعملات بالبيتكوين، وفتاوى دخول الكنيسة ودخول المسجد، وفتاوى الحكم بإيمان أو تكفير أهل الأديان والمذاهب المختلفة، وفتوى استحقاق غير المسلم بعض الوظائف فى الولاية العامة، وتهنئة المسيحي للمسلم وتهنئة المسلم للمسيحي، والترحم لموتى المسيحيين والمسلمين، وفتوى الاختلاف فى الاستشهاد فى سبيل الدين والوطن، وزواج المسلم من المسيحية والعكس، وفتوى تجسيد الأنبياء وأصحابهم وأحبارهم في الأعمال الدرامية، وغير ذلك من مسائل الحياة المشتركة فى المجتمع المصري الواحد، هل ستكون فتوى تلك اللجان المحظوظة بالقانون ملزمة للمسيحيين أم خاصة بالمسلمين؟
وبهذه المناسبة أنتهز الفرصة أن أطالب اللجان الإفتائية المذكورة في القانون أن تجيب عن هذه المسائل الملحة في المجتمع وأن تجعلها من أولوياتها فى فتاويها العامة، فهي رأس القضايا التي يجب أن تعلن فتواها فيها. كما نريد من الأزهر الشريف الإفصاح عن رأيه في تلك الفتاوى المهمة، سواء صدر القانون أو لم يصدر.
وفى دفاعي عن حرية الفكر والتعبير عنه، أنوه إلى حق المواطن في أن يتعرف على الآراء المتعددة والمختلفة فى أمور دينه كما في أمور دنياه، ليختار بمسئوليته الشخصية، ما يراه صالحا بضميره الذي يلقى الله عليه، وهذا القانون يصادر حقه فى ذلك، ويفرض عليه رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، تلك الهيئة المنوط بها تحديد أي الرأيين هو الشرعي، أهو الصادر عن مجمع البحوث الإسلامية، أم الصادر عن دار الإفتاء المصرية، اللتين ينص القانون على صلاحيتهما لإصدار الفتوى الشرعية العامة إضافة إلى هيئة كبار العلماء. هل يعقل بعد هذا أن نقول إن فتوى مجمع البحوث الإسلامية أو فتوى دار الإفتاء المصرية، التي أهملتها هيئة كبار العلماء، أنها فتوى غير شرعية، بعد أن وصفها القانون بأنها شرعية؟
وهل يعقل بعد أن منح القانون الهيمنة لهيئة كبار العلماء على سائر اللجان الإفتائية معها، أن تقول “الله أعلم” في مسألة ما؟
أدعو من لم يعِ أبعاد هذا القانون ومآلاته، التي تخصه شخصيا في دقيق أمور حياته، أن يعيد التفكير لحماية حريته وحرية الآخرين، وأن ينصح للحق المجرد دون محاباة لأحد، فالوطن أمانة والمواطنون فيه سواء.
(موقع الدستور)