في زمن الأخوة… قراء في كتاب: “لنعبر إلى الشاطئ المقابل”
انطلاقًا من الدعوة إلى “الأخوّة الإنسانيّة”، صدر هذا الكتاب، الذي كتب مقدمته البابا فرنسيس وحمل عنوان “لنعبر إلى الشاطئ المقابل”، لصاحبه المؤلف الإيطالي الأب بينيتو جورجيتا، المسؤول عن متابعة شأن السجناء في مدينة لاتينا، ومسؤول مركز “إيكتوس” الذي يستضيف سجناء في حرية مراقبة أو شبه حريّة، وكذلك أولئك الذين أوكلت إليهم أعمال اجتماعيّة خدميّة في المجتمع.
الكتاب ليس قصة ذاتيّة أدبيّة، ولا موضوعًا خبريًا، وإنما عبارة عن محاورات مع أحد رجالات المافيا السابق الذي تاب وأناب، واليوم يتعاون مع العدالة، وأجاب المؤلف عن سؤال: ما الذي يهدف إليه رجل دين كاثوليكي من الحوار مع رجل مافيا، درج طوال حياته على أن يسلك طريق الجريمة؟.
بحسب المؤلف هناك ثلاثة أهداف، خلق حالة من التفكير المناهض للجريمة المنظمة في البلاد شمالها وجنوبها، إنشاء مدرسة فكرية تعمل جاهدة على مقاومة أعمال العصابات المنظمة، وأخيرًا دفع الشباب الصغير إلى معاداة جماعية لكل تنظيمات المافيا محليًا وعالميًا.
من عنوان الكتاب يتبيّن لنا فكرته، فهو انتقال من عالم الجريمة والعنف، إلى الشاطئ الآخر، حيث التعاون مع الشرعيّة في البلاد بهدف تحقيق العدالة، ومع ترك هامش للرحمة تجاه الآخر، ما يسمح بالعودة ثانية إلى بر الإنسانيّة.
ما الذي يتوجب فعله في مواجهة الآخر الذي يخطئ، هل نغلق في وجهه أبواب الأمل، أم أن الأخوة تقتضي سلوك الرحمة تجاهه؟ وجاء الجواب على لسان البابا فرنسيس، والذي كتب مقدمة الكتاب بيده، وتحدّث فيها عن أهميّة ما أسماه التصحيح الأخوي لمن أخطأ، واصفًا هذا بفعل محبة إزاء الأخ القائم على الجانب الآخر من شط الإنسانيّة.
ينصح البابا الجميع بأنه في مواجهة الآخر الذي تقوده الأقدار في طريق الخطأ أو مخالفة العدالة، ألا نسلك معه بطريقة فوقيّة استعلائية، كما لا ينبغي أن نشعره بأننا أفضل منه، بل أن نخلق حالة من المساعدة التي تعينه على مشكلته، لاسيّما أنه في مثل هذه اللحظة يكون في أضعف حالاته النفسيّة، وقريبًا جدًا من حالة الانهيار.
كما ينصح فرنسيس بألا نتكالب على المخطئ، بل أن نكون قريبين منه ونساعده على تجاوز أزمته الراهنة، وهذا يعني عملية تصحيح أخوي للمسار، لا أن نمسك بسوط الجلاد ونقرعه.
متى يشفى الآخر من أخطائه؟، بحسب الفقير الساكن وراء جدران الفاتيكان، يشفى الآخر حين يشعر بحبنا، ويتملكه حنين إلى المحبّة، وفي حال تركنا الشخص في الخطأ بدون تصحيح، نصبح مشاركين في المسؤوليّة، وإن لم نساعده نضحى متقاعسين ومقصرين عن الإنقاذ، ويشبه الحبر الأعظم المشهد بما يجري في حال حوادث السير حين يمر البعض من دون توقف.
يؤكد المؤلف، بنيتو جورجيتا، على أن كتابه هذا والذي يروي فيه قصة رجل المافيا الإيطالي بونافنتورا، يعمل على إيقاظ الضمائر، إنه صرخة أمل في العاصفة لأي شخص محبط في الحياة ومنها، و إذا كنت مخطئًا فلا يجب أن تظل مخطئًا، بل أن تبادر إلى استنقاذ ذاتك من وهدة الخطأ والألم، وعلينا ألا نخاف من العدوى بل أن نبادر لنجدة الملهوف وإسداءه المعروف.
العبور إلى الشاطئ الآخر، يعني ضمن مفاهيم كثيرة عالم من السلام، بعد أن عانى العالم ولا يزال كثيرًا وطويلاً جدًا من الخصام، وهذا ما توقف معه فرنسيس أكثر من مرة في رسالته البابوية الشهيرة “كلنا أخوة”، وعنده أن السعي والعبور نحو الآخرين لا يعني فقط التقارب بين فئات اجتماعية تباعدت إثر فترات صراع في التاريخ، ولكن يعني أيضًا البحث عن تلاقي جديد مع أكثر القطاعات فقرًا وضعفًا.
هنا العبور يعني السلام المتجاوز للحرب، إنه الاعتراف بالكرامة وضمانها وإعادة “بنائها” بشكل ملموس، والتي غالبًا ما ينساها إخوة لنا ويتجاهلونها، حتى يتمكنوا من الشعور بأنهم ابطال مصير أمتهم، يعني العبور إلى الشاطئ الآخر القدرة على المغفرة الحقيقيّة، وهنا ينبغي الإشارة إلى أمر مهم للغاية وهو أن المغفرة والمصالحة هما موضوعان لهما أهمية كبيرة في المسيحيّة والإسلام واليهوديّة، عبر طرائق مختلفة. أما الخطر فيكمن في عدم فهم المعتقدات بطريقة صحيحة وتقديمها بطريقة تؤدي في نهاية المطاف إلى تغذية الخمول أو الظلم، أو من ناحية أخرى لتغذية التعصب والعنف.
على أن العبور إلى الشاطئ الآخر في حقيقته لا يعني بهذا أننا نقترح العفو بالتنازل عن حقوقنا أمام شخص قوي فاسد، أو أمام مجرم أو أمام شخص يهين كرامتنا. نحن مدعوون لأن نحب الجميع بلا استثناء، لكن أن نحب الظالم لا يعني أن نقبل استمراره في كونه ظالمًا، ولا أن نجعله يعتقد أن ما يفعله مقبول. بل على العكس، فإن أحببناه حقًا فسوف نسعى بطرق مختلفة لأن نوقفه عن ظلمه، وننتزع منه تلك السلطة التي لا يعرف كيف يستخدمها والتي تشوهه كإنسان.
فالمغفرة والعبور إلى الآخر لا يعنيان السماح بمواصلة الدوس على كرامة الشخص وكرامة الآخرين، أو السماح لمجرم بالاستمرار في الشر، وهنا تبدو الرؤية واضحة ومن دون أدنى ضبابية، فعلى من يعاني الظلم أن يدافع بقوة عن حقوقه وحقوق عائلته ومجتمعه، لاسيّما أنه عليه الحفاظ على الكرامة التي منحت له، وهي كرامه يحبها الله.
لكن من المهم في رحلة العبور واليقظة للظلم المجتمعي ورفضه، بل والوقوف ضده، ألا نقوم بذلك بهدف تغذية الغضب الذي يؤذي أرواحنا وشعوبنا، أو انطلاقًا من رغبة في تدمير الآخر عبر إطلاق سلسلة من الثارات والعداوات التاريخية التي لا تنتهي أو تتوقف.
لن يتحقق السلام العالمي إلا من خلال عبور حقيقي إلى الشاطئ الآخر، ولا يوجد مستقبل لأية عائلة، ولا أية مجموعة من الأقرباء، ولا أية مجموعة عرقيّة، ولا حتى أي بلد، إذا كان الدافع الذي يوحّدهم، ويجمعهم ويغطي الاختلافات، هو الانتقام والكراهيّة.
لا عبور إلى الشاطئ الآخر في ظل الكراهيّة أو الرغبة في الانتقام، فالمحبة هي التي تنتصر في نهاية الأمر كله والشر مصيره أن يتوارى حكمًا، ويفتح الكتاب الباب واسعًا أمام فكرة بذرة الرجاء، تلك التي يتوجب أن تتسلل إلى شقوق المجتمعات الفردانيّة والأنانيّة، والتي لا تنتبه إلى الآخر بوصفه أخ على دروب الحياة.
خلاصة هذا العمل الجميل، التغيير مطلوب، ولا يجب أن يظل الأشخاص مدفونين فيما ارتبكوا من شر، بل يمكن العبور دائمًا إلى الشاطئ المقابل حتى وإن كان هذا الإبحار شاقًا ومحفوفًا بالمخاطر. المهمّ ألا يشعر أحدهم بأنه وحيد ومعزول.
(المصدر أبونا)