ترأس الكاردينال بييرباتيستا بيتسابالا، بطريرك القدس للاتين، القداس الإلهي أمام قبر الخلاص في كنيسة القيامة بمدينة القدس، بمناسبة خميس الأسرار بمشاركة لفيف من كهنة الأرض المقدّسة. وخلاله تم مباركة الزيوت المقدسة وجُدّدت مواعيد الكهنوت.
وفيما يلي النص الكامل لعظة غبطته:
أيها الأعزاء،
سمعتُ مراراً في هذه الأيام، من مختلف الأشخاص والأماكن، عبارة “استعدّوا لفصح صعب!”
الإشارة واضحة إلى الأشهر الرهيبة التي نعيشها هنا في الأرض المقدسة، وإلى المحنة الشديدة التي يتعرض له إيماننا ورجاؤنا، وعيشنا المشترك، وحتى الأخوة الكنسية نفسها. هذه العبارة هي أيضًا وسيلة للتعبير عن التفهم والمشاركة والتقارب والتضامن. وهنا أشكر بصدق كلّ الذين، بدءًا من قداسة البابا، دعمونا في هذه الأشهر بصلواتهم وسخائهم الفعلي وما زالوا يدعموننا.
بالطبع، إن الحرب، مع كل ما تحمله من عنف وكراهية ومعاناة وموت، تجعل الاحتفال بالعيد صعباً. وفي واقع الأمر، ليس عيد الفصح سهلاً أبدًا، ما لم نرغب في أن نحصُره بشعائر قديمة، أو أن نعتبره عيدا كسائر الأعياد. وإذا كان المقصود من الاحتفال الاستراحة من العمل فقط، وقضاء وقت ممتع يجعل الحياة اليومية أسهل، فإنه بالتأكيد لا يوجد مجال كبير هذا العام للمرح والترفيه، بل بالحري للألم والدموع.
إذا كان عيد الفصح هو احتفال بآلام وقيامة المسيح، وتأوينا للانتقال من الموت إلى الحياة، هنا والآن، فإن العيد ليس صعباً هذا العام فقط، بل دائما، إنه احتفال صعب، كما أن الحياة المسيحية هي صعبة: “المسيحية ليست سهلة ولكنها سعيدة”، قال البابا القديس بولس السادس.
إذا كانت الظروف المؤلمة الراهنة، تجعل الترف صعبًا، فإنها من ناحية أخرى تساعدنا بشكل غير متوقع على الدخول بوعي أكبر في سرّ عيد الفصح الصعب، ليس بسبب صعوبة العقيدة، ولكن بسبب صعوبة تقبل معاني الفصح وعيشها.
كان عيد الفصح صعبًا أولًا وقبل كل شيء بالنسبة ليسوع. لم يكن سهلاً عليه. ففي أصعب ليلة في حياته، ليلة الخيانة، كان عليه أن يثق بالآب، وأن يوحّد أصدقاءه حوله، وأن ينتظر اليوم الذي سيشرب فيه الخمرة الجديدة في الملكوت معهم. لم يكن سهلاً بالنسبة له، على الرغم من الرغبة المتقدة في قلبه، أن يأكل عيد الفصح مع اولئك الذين كانوا يتنافسون على المكانة الأولى ومن هو الأكبر بينهم. كان من الصعب أن يفهم بطرس أنه في بعض الأحيان، على الرغم من أنه بدا له ضروريا استخدام السيف، إلا أن استخدامه في النهاية كان غير مجد، لأن الحياة لن تأتي من الظلم، ولكن من الخدمة: “فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبَّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضاً أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعْض” (يوحنا 13 :14). وحدث أن تعرق يسوع دمًا بسبب محاولته البقاء مخلصًا لأبيه الذي يشرق شمسه على الصالحين والأشرار، ويحب الأخيرين مثل الأولين. نعم، كان عيد الفصح ليسوع صعبًا كما أن الحبّ صعب عندما يكون حقيقيًا، عندما يتحقق في بذل الذات حتى النهاية، دون التوقف في الطريق. فالخطيئة بالفعل، (وظهرت الكلمة لأول مرة في الكتاب المقدس بالتحديد في سياق “الحرب” الأخوية بين قابيل وهابيل)، جعلت الحب صعبًا، والطريق نحو الحقيقة شاقًا، وآلام ولادة الحياة الجديدة مؤلمة.
لذلك، يبقى الاحتفال بالفصح صعبًا للمسيحيين، ومن الصعب أن نكون مسيحيّي الفصح، أي أبناء القيامة. فالاحتفال بفصح المسيح، في الواقع، يتضمن المشاركة فيه، وجعله جزءًا منا: المسيح فصحنا! ولكن القيامة معه تتطلب النزول معه. والموت مع المسيح ليس بالأمر السهل. كتب فيلسوف كاثوليكي كبير، “موت المسيح بعيد جدًا عن كونه مجرد مصير تحمله، أو مجرد حادث مؤسف أدى إلى توقف بنيته البيولوجية. تقبّل يسوع موته، واعتبره تتويجا للحياة وليس كارثة مبكرة انقضّت على جسده. موت المسيح خصب، هو مصدر حياة يخترق حائط الانحلال الكثيف والمظلم ليعلن لكل إنسان يوم الولادة الحقيقية، يوم المجد والقيامة” (إيمانويل ساميك لودوفيتش).
لذا، فإن الظروف الراهنة لعيد فصحنا ليست في الواقع مختلفة كثيرًا عن ظروف عيد فصح السيد المسيح. فكما كان الحال في ذلك الوقت، فإن الرغبة في السلام اليوم تختلط بسهولة كبيرة مع الحاجة إلى الانتصار. وقد رأينا سابقاً أن طريق برأباس يبدو مقنعًا أكثر من طريق يسوع. وكما حدث مع التلاميذ في تلك الليلة العظيمة والمأساوية، نجد أنفسنا اليوم مضطربين ومرتبكين، نحاول النوم بسبب الحزن بحثا عن سلام زائف، ليس لدينا شجاعة قول الصدق، ولا القدرة على التألم لألم الآخرين. مثل بطرس، نحن أيضًا يغرينا السيف وحدته، مما يجعلنا عرضة لمشاعر العنف والرفض، التي تؤدي بالفعل إلى الموت. والأسوأ من ذلك، نتجرأ على خيانة المعلم من خلال بيع رسالته ونبوءته، والتخلي عن نعمة الغفران وبذل الذات، التي تقود إلى الحياة الحقيقية. على مثال الرسل، يبدو صعبا علينا اتباع مثال المعلم. فقد مرّ بأسوأ ليلة في حياته وهو يعيش الحب العظيم، باذلا نفسه تمامًا أولاً وراء رمزية الماء المصبوب على أقدام التلاميذ، ثم في علامات الخبز المكسور والخمر المسكوب، وأخيرًا في تضحيته على الصليب. إن البقاء في الصراع، واجتياز الليل مع مزيد من الحب، والإيمان والأمل، والعطاء والمغفرة دون كلل أو ملل: هذه هي الطريق إلى الحياة، الطريق الحقيقية.
كمسيحيين، يجب أن نمتلك القوة والشجاعة لتبني كلمات وأفعال مختلفة، وأقولها بجرأة لا بد أن تكون ثمة كلمات بديلة أمام الألم والظلام، حتى لو بدت صعبة أو غير مفهومة. فإن إعلان البشرى السارة هو طيب ومفيد فقط للقلب التائب والباحث عن الحقيقة والحبّ الحقيقي.
“اصنعوا هذا لِذِكْري” (لوقا 22 :19). ما نحتفل به على المذبح يجب أن يتحول بعد ذلك إلى عمل خير في العالم الحقيقي. كلمات وأفعال العشاء الرباني، وكلمات وأفعال عيد الفصح يجب أن تصبح جزءا منا، لأننا نستطيع أن نحمل النور حيث الظلمات، والمصالحة حيث النزاعات، والعزاء حيث المحنة. واقتداءً بالمعلم، نريد ويجب علينا أن نقوم عن المأدبة القربانية لنحمل إلى العالم نفس رغبة المعلم في الخير، والاستمرار في العالم لنكون الخميرة السماوية لخبزه السرّي.
وكل ذلك لن يكون أبدًا ثمرة جهد بشري. بقوتنا وحدها، لن نستطيع أبدًا أن نجعل هذا النمط البديل والثوري، نمط المحبة والتضحية، أن يكون جزءًا من حياتنا. الحياة المسيحية ليست كجهد سيزيفوس الأسطوري، بل هي الاستجابة السخية والمقتنعة والممتنة لمن اختبروا فرحة الغفران. “ما أَنا فاعِلٌ، أَنتَ لا تَعرِفُه الآن، ولكِنَّكَ ستُدرِكُه بَعدَ حين” (يوحنا 13 :7). نعم، من الصعب علينا أن نفهم هذا السر، أن نقتنع أن الخير في العالم لا يكمن في القوة والسلطة والسيطرة، بل في اللطف والخدمة والعطاء، في غسل أقدام بعضنا بعضًا. لا يمكننا أن نفهم هذا إلا “لاحقا”، بعد أن تُغسَل أقدامنا من قبل من يحبنا على الرغم من كل شيء، بعد أن ننال الغفران المجاني عن خياناتنا، بعد أن تتجدد حياتنا بلقاء القائم.
لذا، نعود بمخيلتنا اليوم إلى العشاء الرباني لنعيش آخر ليلة مع الرب؛ نحن هنا كي نعود إلى مدرسة المعلم الذي يطلب منا أن نفعل، أو بالأحرى، أن نكون مثله؛ نحن هنا لنجدّد الوعد بأن نكون خدامه، أي الأصدقاء الموثوق بهم والذين، على الرغم من خوفهم من الموت، يطيعون الآب ويخدمون الإخوة، عالمين أننا لا نقفز في الفراغ، بل في الله وكلمته، التي تَعِدُ بالقيامة؛ نحن هنا لأن المسحة السرية بالروح القدس تجعلنا مشابهين له ولخياراته وتجعلنا أنبياء الرجاء وشهوداً لطريقة جديدة في الحياة والموت.
نحن هنا لأننا نريد أن نستمر في كوننا، على الرغم من التعب والضياع، مسيحيين وكهنة فصحيين، قادرين على عبور الألف ليلة وليلة من ليالي الحياة والعالم، مجازفين وراء خطوات المعلم، مشاركين قصده، وقادرين معه على محبّة أعظم، وباذلين أنفسنا حتى النهاية بثقة وأمل في الله الذي يُحيي الموتى.
(أبونا)