وجّه صاحب الغبطة مار أغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، رسالة عيد القيامة لعام 2023، بعنوان “إنّه حيّ”، تناول فيها الأوضاع العامّة في لبنان والشرق الأوسط والعالم، والحضور المسيحي فيها.
وقال: “انتصر ربّنا يسوع المسيح على الخطيئة والموت بقيامته ظافراً بعد أيّامٍ ثلاثة. فحُقَّ لنا أن نحتفل معه بهذا العيد المجيد، إذ يستحقّ شعبنا المضطهَد والمعذَّب منذ فجر المسيحية في هذا الشرق، أن يرى النور المنبعث من القبر الفارغ مُشرقاً عليه، وينعم بحياةٍ كريمةٍ ومستقبلٍ مستقرٍّ وسلامي. فلا يزال أبناؤنا يعانون، ولا تزال أوطاننا ترزح تحت وطأة الخراب والدمار والعذابات، ما ينغّص فرحة العيد.
لبنان:
إنّ لبنان يُعاني ما يعانيه على الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمعيشية كافّةً، فضلاً عن انهيار العملة الوطنية، واستمرار تعدُّد أسعار صرف الليرة اللبنانية تجاه العملات الأجنبية، وحجز أموال المودعين في المصارف وسرقتها، وكل ذلك دون أن يرفّ جفنٌ لدى من يعنيهم الأمر من الذين ابتُلِيَ بهم الوطن واستلموا مواقع المسؤولية في الدولة. هؤلاء الفاسدون والمُفسدون يُمعِنون في تعطيل عمل المؤسّسات السياسية والدستورية والإدارية، ويهدمون آمال الشباب اللبناني بالبقاء في وطنهم، وبناء مستقبلهم فيه.
إنّنا نشجب التقاعس المتعمَّد من قِبَل المسؤولين عامّةً، والنواب خاصّةً، الذين صمّوا آذانهم عن التجاوب مع ما يمليه عليهم الحسّ والضمير والكرامة الوطنية. عليهم أن يكفوّا عن المماحكات والمناورات، فينتخبوا فوراً رئيساً للجمهورية يكون الأجدر والأنزه، كي يُنقذ ما تبقّى من هذا الوطن الحبيب، وينتشله من كلّ ما يتخبّط به من أزماتٍ وكبواتٍ، ويعمل دون إبطاءٍ على تشكيل حكومةٍ وطنيةٍ تقوم بتنفيذ الإصلاحات الواجبة، ليعود لبنان إلى الخارطة الدولية، وإلى سابق عهده من التطوّر والازدهار. إلا أنّنا نرى أنّ المسؤولين في هذا البلد عازمون على عدم انتخاب رئيسٍ، كيلا تتمّ محاسبة الفاسدين وردعهم عن انتهاك حقوق اللبنانيين، وكي يبقى التفلّت سائداً في كلّ مرافق الدولة وأركانها التي بدأت تتهاوى الواحد تلو الآخر، بانتظار الارتطام الكبير الذي بات وشيكاً، إن لم يعُد المسؤولون ويرتدعوا.
فها هو الدمار الشامل يتربّع على عرش المؤسّسات التربوية والإستشفائية، وكأنّما المسؤولون يسعون بكلّ قدرتهم لتفتيت كلّ معقلٍ وصرحٍ تربوي وطبّي، بينما يقاوم المخلصون ويبذلون الجهود المضنية كي يبقى لبنان منارةً ورسالة.
ولا يسعنا إلا أن نجدّد مطالبتنا الدائمة بإنهاء التعطيل المقصود في تحقيقات تفجير مرفأ بيروت الإجرامي، بغية الوصول إلى كشف الحقيقة في هذا الملفّ، ومحاكمة المتّهَمين ومحاسبتهم عمّا ارتكبوا من جريمة نكراء.
نسأل الرب يسوع القائم أن تحمل هذه الأعياد المباركة الرجاء والقيامة الحقيقية لهذا الوطن، لأنّ الشعب يستحقّ الحياة الكريمة، والشباب الأملَ بغد أفضل لهم في بلدهم.
سوريا:
وسوريا التي تعاني الأزمات والحروب منذ سنواتٍ، كيف لا نشعر ولا نتألّم بسبب الزلزال المروّع والهزّات الإرتدادية الذي أصابتها، لا سيّما في حلب والمناطق الشمالية الغربية! وخلال الزيارة الأبوية التفقّدية التي قمنا بها إلى حلب في شباط الماضي، عاينّا بعض نتائج هذه الكارثة، وما سبّبته من دمارٍ هائلٍ، ومن فقدان الأهل والأحباب، وخلّفته من جروحٍ نفسيةٍ وجسديةٍ، مع الخوف والقلق الشديدين. ومع هذه النكبة الطبيعية وما حملته من آلامٍ ومعاناةٍ، لمسنا صدق التضامن والتعاضد بين جميع المواطنين دون تفرقةٍ أو تمييز.
ومع بارقة الأمل التي تلوح في الأفق مبشّرةً بانفتاح سوريا إقليمياً ودولياً، نسأل الله أن يحميها من الإرهاب والشرور، ويجمع المواطنين بمصالحةٍ صادقةٍ، كي يحقّقوا معاً الإعمار والسلام والاستقرار.
العراق:
وفي العراق، أرض ما بين النهرين، حيث تشرّفنا في شباط الماضي بزيارة فخامة رئيس الجمهورية ودولة رئيس مجلس النواب ودولة رئيس مجلس الوزراء وسعادة رئيس المحكمة العليا، لمسنا لديهم روح الانفتاح على قضايا الشعب وحاجاتهم المشروعة دون تمييزٍ، وعلى الرغبة في العمل لإعادة جمع مكوّنات الوطن في بوتقةٍ واحدة. وقد عبّروا لنا عن تقديرهم للمكوّن المسيحي واعترافهم به مكوّناً أصيلاً ومؤسِّساً في البلد. وبدورنا أكّدنا لهم تمسُّك المسيحيين بوطنهم الغالي العراق والبقاء أوفياء له، ومحبّتهم له رغم الصعوبات والتحدّيات.
وإذ نعود من زيارتنا الأبوية إلى أبرشية الموصل، حيث فرحنا وتعزّينا بترؤّسنا الاحتفال المهيب ومسيرة الشعانين في شوارع قره قوش (بخديدي)، بمشاركة الآلاف من المؤمنين، نصلّي كي يتابع المسؤولون عملهم لبناء السلام والألفة بين مختلف المكوّنات، فتتضافر الجهود لعودة العراق الغالي إلى استقراره وازدهاره.
وتركيا، التي عانت وتعاني بسبب الزلازل المدمّرة والمتلاحقة التي تعرّضت لها في الأسابيع الماضية، مع كلّ ما سبّبَتْه من دمارٍ وضحايا وآلام. أملُنا أن يستمرّ تعاضُد حكّامها ومسؤوليها ومواطنيها لنجدة المنكوبين والمتضرّرين، وإعادة بناء ما تهدّم، ضارعين إلى الله كي يجنّب هذا البلد والعالم خطر هذه الكوارث ومثيلاتها.
والأراضي المقدسة، حيث عدم الإقرار بحقوق الآخر لا يزال متجذّراً في نفوس البعض، ممّا يسبّب الخلافات والعداوات، نصلّي من أجلها كي تكون أرض سلامٍ ووئامٍ وأخوّةٍ، فتتلاقى القلوب في الله الواحد، وهو المحبّة والسلام.
ومصر والأردن وبلدان الخليج العربي، فإنّنا نثمّن الجهود المبذولة من الحكومات والمسؤولين فيها لتعزيز الازدهار ونشر الوئام والانسجام بين مختلف المكوّنات، ممّا ينشر فيها جوّاً من الألفة والمودّة والتسامح.
إنّنا نجدّد صلاتنا من أجل إحلال السلام والأمان في العالم، وخاصّةً على نيّة إنهاء الحرب المدمِّرة بين روسيا وأوكرانيا، والتي تهدّد السلام والاستقرار العالميين، ومن أجل وضع حدٍّ لكلّ الحروب والأزمات في كلّ مكان.
كما نتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا في بلدان الانتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، ونحثّهم على متابعة الشهادة للرب يسوع والتعلّق بإيمانهم والتزامهم بكنيستهم وتراثهم السرياني ومبادئهم الأصيلة التي تربّوا عليها في بلادهم الأمّ في الشرق، إلى جانب محبّتهم وإخلاصهم للأوطان الجديدة التي احتضنَتْهم، فيبقى حضورنا مشعّاً وسط عالمنا المضطرب.
وإنّنا نجدّد مطالبتنا بالإفراج عن جميع المخطوفين، من أساقفةٍ وكهنةٍ وعلمانيين، سائلين الله أن يرحم الشهداء، ويمنّ على الجرحى والمصابين بالشفاء التام. ونعرب عن مشاركتنا وتضامننا مع آلام ومعاناة المعوَزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ العائلات التي يغيب عنها فرح العيد بسبب فقدان أحد أفرادها، ضارعين إلى الله كي يفيض عليهم نِعَمَه وبركاته وتعزياته السماوية”.
(المصدر عنكاوا)