من المغري أن نستسلم لليأس عندما نرى أعمال العنف المروّعة تنتشر في العالم، بل وتصل إلى حياتنا القريبة. كما قد نُجرَّب أحيانًا أن نردّ على العنف بعنفٍ أكبر، معتقدين أنّ كل ما علينا فعله هو القضاء على كل من نظنّ أنّه قادر على ارتكاب الشرّ.
ومع ذلك، فالنظرة المسيحيّة ليست الاستسلام لليأس، ولا محاربة الشرّ بالشرّ، بل الثقة والرجاء في صلاح الله.
الشر لن ينتصر
تحدّث القديس يوحنا بولس الثاني عن هذا الموضوع في رسالته بمناسبة اليوم العالمي للسلام سنة 2005 قائلاً: “انطلاقًا من اليقين بأنّ الشرّ لن ينتصر، يغذّي المسيحيون رجاءً لا يُقهَر يدعم جهودهم في تعزيز العدالة والسلام. ورغم الخطايا الشخصيّة والاجتماعيّة التي تطبع كل نشاط بشري، فإنّ الرجاء يمنح على الدوام دافعًا جديدًا للالتزام بالعدالة والسلام، وثقة راسخة بإمكانيّة بناء عالم أفضل.”
لم يكن يعتبر هذا أنّ خيال بعيد المنال، بل حقيقة واقعيّة. فالشرّ قد يبدو أحيانًا وكأنه لا يُقهَر، لكن بنعمة الله، نستطيع جميعًا أن نصبح عوامل خير: “أمام الأوضاع المأساويّة الكثيرة في العالم، يعترف المسيحيون بثقة متواضعة أنّ الله وحده قادرٌ أن يمكّن الأفراد والشعوب من التغلب على الشرّ وتحقيق الخير. فبموته وقيامته، افتدانا المسيح وأدّى “ثمن” خلاصنا (1 كور 6: 30، 7: 23)، فصار الخلاص مُتاحًا للجميع. وبمعونته يمكن للجميع أن يغلبوا الشرّ بالخير.”
يؤكد القديس يوحنا بولس الثاني أنّنا لا نستطيع أن نهزم الشرّ بالشرّ، بل فقط بالخير.
يمكن تقليل العنف في هذا العالم حين يستجيب الناس لنعمة الله ويسلكون “الطريق الضيّق”، مختارين أن يحبّوا بدلًا من أن يكرهوا.
وقبل كل شيء، يجب أن نتذكّر أنّ الشرّ لن تكون له الكلمة الأخيرة في هذا العالم. فحين ينتهي مسار هذه الأرض، ستفسح المجال لسماء جديدة وأرض جديدة، حيث لا مكان للعنف بعد ذلك.
قد يكون من الصعب أن نرى ذلك، لكننا مدعوون لنحمل الرجاء بأنّ الله هو الضابط لكل شيء، وأنّه يُعِدُّ سلامًا دائمًا، سيبقى إلى الأبد.
لتكن الكنيسة دومًا مدرسة للتواضع تستقبل الجميع
خاطب البابا لاوُن الرابع عشر المؤمنين والحجّاج المحتشدين في ساحة القديس بطرس، الأحد الماضي، في صلاة التبشير الملائكي، مذكّرًا بقراءة الإنجيل لهذا اليوم التي تدعو إلى التواضع، والانفتاح على الآخرين، وثقافة اللقاء. وأشار قداسته إلى أنّ النص الإنجيلي (لوقا 14: 1، 7-14) يتحدّث كيف دُعي يسوع إلى مائدة أحد رؤساء الفريسيين، وهو مثال يوضّح أنّ الجلوس معًا على المائدة، في كل الثقافات، يمكن أن يكون علامة على السلام والشركة والمشاركة واللقاء.
السعي إلى لقاء صادق
لفت البابا إلى أن اللقاء الصادق ليس أمرًا سهلاً دائمًا. فقد ذكّر كيف أنّ يسوع حين زار بيت أحد الرؤساء الفريسيين كان جلساء الطعام “يراقبونه”، فيما نظر إليه بعض المفسّرين المتشدّدين للتقليد بعين الريبة. ومع ذلك، شارك يسوع بتواضعٍ في المناسبة كضيف، باحترامٍ وصدق، متخليًّا عن السلوكيّات والمجاملات الشكليّة التي تمنع المشاركة المتبادلة.
وبأسلوبه التعليمي، قدّم يسوع مثلًا يصف سباقًا للحصول على المقاعد الأولى، محذرًا من روح المنافسة التي تُبعد عن جوهر المشاركة الأخوية. وأوضح البابا أنّ هذا الأمر يتكرّر في حياتنا اليومية، حيث تتحوّل اللقاءات أحيانًا إلى ساحة لإثبات الذات أو جذب الانتباه.
وأضاف: “الجلوس معًا حول المائدة الإفخارستيّة في يوم الرّب يعني أن نترك الكلمة ليسوع. فهو يصير بكلّ سرور ضيفنا، ويمكنه أن يصفنا كما يرانا. ومن المهم أن نرى أنفسنا بنظرته: أن نعيد التفكير في كيف نختصر مرارًا الحياة في سباق، وكيف نضطرب أحيانًا لننال بعض الاعتراف والتقدير، وكيف نقارن أنفسنا بالآخرين بلا جدوى. إن توقّفنا لنتأمّل، وسمحنا للكلمة بأن تهزّنا وتجعلنا نعيد النّظر في أولويّاتنا التي تشغل قلوبنا، فنحن نقوم بعمليّة تحرير. يسوع يدعونا إلى الحرّية”.
التواضع سبيل الحرية الحقيقية
وأوضح البابا أنّ الإنجيل يستخدم كلمة “تواضع” ليصف شكل الحرّيّة الكاملة (لوقا 14، 11). وقال: “في الواقع، التّواضع هو التحرّر من أنفسنا. إنّه يولد عندما يصير ملكوت الله وبرّه اهتمامنا الحقيقيّ، ويمكننا أن نسمح لأنفسنا بأن ننظر بعيدًا: لا إلى رؤوس أقدامنا، بل إلى الأفق! الذي يرفع نفسه، يبدو عادة كأنّه لم يجد ما هو أهمّ من نفسه، وهو في العمق غير واثق بنفسه”.
وبينّ أنّ “الذي يدرك أنّه عزيزٌ جدًّا في عينَي الله، ويشعر بعمق أنّه ابن أو ابنة لله، له ما هو أهمّ ليفتخر به، وله كرامة تسطع من نفسها”. وأكد أنّ هذه “الكرامة تأتي في المقام الأوّل، وتكون في المقدّمة، دون جهدٍ أو تخطيط، عندما نتعلّم أن نخدم بدل أن نستغلّ المواقف”. وطلب البابا من المؤمنين أن يصلّوا لكي “تكون الكنيسة للجميع مكان تدريب للتواضع، أي البيت الذي فيه يكون كلّ إنسان موضع ترحيب، وحيث لا تُنتزع الأماكن انتزاعًا، وحيث لا يزال يسوع يمكنه أن يأخذ الكلمة ويعلّمنا تواضعه وحرّيّته”.
لتصمت أصوات السلاح ولترتفع أصوات الأخوّة والعدالة
وعبّر البابا عن قربه من الشعب الأوكراني ومن ضحايا غرق قارب مكتظّ بالمهاجرين بالقرب من السواحل الأطلسيّة لموريتانيا ويذكر بالاحتفال باليوم العالمي للصلاة من أجل العناية بالخليقة، ووجّه قداسة البابا لاوُن نداء قال فيه: للأسف، لا تزال الحرب في أوكرانيا تزرع الموت والدمار. ففي هذه الأيام أيضًا أصابت الغارات عدّة مدن، بما فيها العاصمة كييف، متسبّبة في سقوط العديد من الضحايا. وأدعو الجميع إلى عدم الاستسلام للامبالاة، بل إلى الاقتراب بالصلاة وبأعمال محبّة ملموسة. وأكرّر بقوّة ندائي الملحّ من أجل وقفٍ فوريّ لإطلاق النار، ومن أجل التزام جادّ في سبيل الحوار. لقد آن الأوان لكي يتخلّى المسؤولون عن منطق السلاح، ويسلكوا درب المفاوضات والسلام، بدعم من الجماعة الدولية. يجب أن تصمت أصوات السلاح، فيما ينبغي أن ترتفع أصوات الأخوّة والعدالة.
تابع البابا يقول: لنُصلي من أجل الأطفال الذين يُقتلون أو يُصابون كلّ يوم في أنحاء العالم. لنلتمس من الله أن يوقف وباء الأسلحة، كبيرة كانت أم صغيرة، الذي يفتك بعالمنا. كذلك تنزف قلوبنا ألمًا على أكثر من 50 شخصًا لقوا حتفهم وحوالي مئة آخرين ما زالوا مفقودين، في غرق قارب مكتظّ بالمهاجرين حاولوا القيام برحلة نحو جزر الكناري، فانقلب بالقرب من السواحل الأطلسيّة لموريتانيا. هذه المأساة المميتة تتكرّر كلّ يوم في مختلف أنحاء العالم. لنصلِّ لكي يعلّمنا الربّ، كأفراد وكمجتمعات، أن نطبّق كلمته بالكامل: “كنتُ غريبًا فآويتموني”.
(راديو الفاتيكان)