
رسالة بطريرك الأقباط الكاثوليك لعيد القيامة المجيد.. قيامة المسيح حقيقة حيّة وقوة تتجدّد في حياتنا كلّ يوم
باسم الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين. من قلب الأب البطريرك إبراهيم إسحق، خادم كنيسة الإسكندريّة وسائر الكرازة المرقسيّة للأقباط الكاثوليك، إلى إخوتنا الأجلاء المطارنة والأساقفة، وأبنائنا الروحيين القمامصة والقسوس، والرهبان والراهبات والشمامسة والخدام،
وإلى كلّ فرد من أبناء كنيستنا القبطيّة الكاثوليكيّة المباركة في مصر وبلاد المهجر.
لتفض قلوبكم وعائلاتكم، في هذا العيد المجيد، بنور القيامة، ولتحلّ عليكم نعمة سماويّة وفرح حقيقيّ ورجاء لا يخيب.
…”وَلَدَنا بِقِيامَةِ يَسوعَ المَسيحِ مِنْ بَينِ الأمواتِ وِلادَةً ثانِيَةً لِرَجاءٍ حَيِّ” (1 بطرس 1: 3).
بعد مسيرة روحية عميقة خلال زمن الصوم الأربعينيّ المقدّس، نجتمع بقلوب مؤمنة لنحتفل بجوهر إيماننا: المسيح قام!
في هذه الليلة النورانيّة، يسطع فجر القيامة ليضيء دروب عالمِنا، وتبتهج الكنيسة، عروس المسيح، لأنّ يسوع الفادي، الذي اختبر كأس الآلام وِقبل الموت بإرادته لخلاصنا، قد قهر الموت وقام منتصرًا، حيًا إلى أبد الآبدين.
إنّ قيامة المسيح ليست مجرّد ذكرى لحدث مضى، بل هي حقيقة حيّة نابضة بالقوة الإلهيّة، قوة تتجدّد في حياتنا كلّ يوم. إنّها الانتصار الأسمى للحياة على براثن الموت، وانتصار النور الساطع على الظلام، والرجاء الوضّاء على اليأس. من هذا الانتصار العظيم، نستمدّ معنى وجودنا العميق، ونتأسّس على صخرة رجائنا الثابت.
ولكن، أيّها الأحبّاء، يتردّد في أذهاننا سؤال هامّ: أين يولد هذا الرجاء؟ وكيف يترعرع وينمو في حياتنا؟
أولًا: قيامة المسيح: منبع الرجاء وشهادة للحياة
إنّنا نعيش في زمن يموج بالتحدّيات والصعاب، زمن تعصف به الأزمات والحروب، وتتسلّل إليه الشكوك لتزعزع يقيننا. قد يبدو الرجاء في خضمّ هذه الأحداث هشًّا وقابلاً للكسر، إلّا أنّ قيامة المسيح، تأتي لتنير بصيرتنا وتؤكّد لنا أنّ الرجاء المسيحيّ ليس مجرّد أمنية عابرة، بل هو يقين راسخ، ضارب بجذوره في أمانة الله المطلقة.
ما هو الرجاء؟
الرجاء هو تلك الفضيلة الإلهيّة التي تملأ قلوبنا بالشوق إلى ملكوت السماوات. إنّه رغبتنا العميقة في بلوغ السعادة الحقيقية، واضعين ثقتنا الكاملة في وعود المسيح الصادقة، ومستندين لا إلى قوتنا الذاتيّة الزائلة، بل إلى معونة نعمة الروح القدس (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 1817).
إنّ فضيلة الرجاء الحيّة تحمينا من فتور العزيمة، وتساندنا في لحظات التخلّي والوحدة، وتُضفي على نفوسنا السكينة. إنّ الدافع النبيل للرجاء يطرد الأنانيّة من قلوبنا، ويقودنا بثبات نحو سعادة المحبّة الباذلة (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة، 1818).
المسيح القائم هو رجاؤنا الحيّ! والفصح المجيد هو اللحظة الفارقة التي يقلب فيها الله منطق البشر: فمن قلب الموت تنبثق الحياة، ومن عمق الألم يولد الخلاص. هذا الدرس الإلهيّ يعلّمنا كيف ننظر بعين الإيمان إلى ما وراء صعوبات الحياة وتحدّياتها، واثقين بأنّ الصليب ليس نهاية المطاف، بل هو الجسر الذي نعبر عليه نحو مجد القيامة. كلّ ألم نعانيه، كلّ تجربة نمرّ بها، كلّ ظلمة تخيمّ على حياتنا، يمكن أن تستنير بنور المسيح القائم.
ومهمّتنا المقدّسة، أيّها الأحبّاء، هي أن نشهد لهذا الرجاء العظيم، لا بألسنتنا فحسب بل بحياتنا بأسرها، لكي يرى كلّ من يلتقي بنا انعكاس نور المسيح الساطع فينا.
“لا تدعوا أحدًا يسرق منكم الرجاء”، هكذا يحذّرنا قداسة البابا فرنسيس في رسالته “فرح الإنجيل”. حتى في أحلك اللحظات التي قد تمرّ بنا، يظلّ الرجاء المسيحيّ هو القوة الخلّاقة التي تُغيّر العالم من حولنا. إنّه يمنح دفعة جديدة لمجتمعاتنا، ويقوي أواصر عائلاتنا، ويثبت التزامنا برسالتنا في هذه الحياة.
ثانيًا: أين يولد هذا الرجاء وكيف ينمو؟ خصّصوا وقتًا لمحبّة الشريك ونمو الأبناء
العائلة هي الحاضنة الأولى التي يولد فيها الرجاء وينمو ويتوارث عبر الأجيال. إنّ العائلة هي علامة حية على محبّة الله الأمينة ورحمته الواسعة، رغم التحدّيات الكثيرة التي تواجهها: من هشاشة اقتصادية تضغط على كاهلها، إلى أنانيّة متزايدة تسعى لتفكيك بنيانها، إلى ثقافة تُشكّك في القيم الروحيّة وتسعى لزعزعة الحقائق الثابتة. إلّا أنّ العائلة تظلّ ”حلم الله للإنسانيّة“.
إنّ دعوة العائلة المقدّسة هي أن تكون المدرسة الأولى التي تعلّم الأمانة في العلاقات، والحبّ المجّانيّ الباذل، والغفران الصادق، والعطاء المتبادل بين أفرادها.
كم من مرّة نسمع تلك العبارة المثيرة للقلق: “لا يوجد وقت”.
لا وقت للحوار الهادئ، لا وقت لقضائه مع الأبناء، لا وقت للحياة الجماعية الدافئة أو للصلاة المشتركة. لا وقت لحماية قدسية الزواج، أو لنقل كنوز الإيمان إلى الأجيال القادمة، أو لتقوية الروابط التي تجمع بين أفراد الأسرة.
يؤكّد البابا فرنسيس في “فرح الحب”: “الوقت هو هبة من الله، والوقت الذي نخصّصه للعائلة ليس وقتًا ضائعًا، بل هو استثمار ثمين في أغلى ما نملك”.
أيهّا الإخوة والأخوات الأحبّاء “لا تدعوا الوقت يُسرق منكم!“ خصّصوا وقتًا ثمينًا لمحبّة الشريك، ولنمو الأبناء الروحيّ والعاطفيّ، وللصلاة العائليّة التي تربط القلوب بالله، وللإفخارستيا المقدّسة التي تغذّي أرواحنا، وللخدمة المتواضعة التي تشهد لمسيح. خصّصوا وقتًا لتكونوا حاضرين بقلوبكم وعقولكم لمن هم في ضيق وحاجة، كونوا بنّائين لجماعات حيّة ومضيافة تعكس نور المسيح الحيّ”.
في تفاصيل حياتنا اليوميّة البسيطة، يولد الرجاء ويُختبر:
*عندما تستيقظ الأم باكرًا لترعى أبناءها بحنان.
*عندما يعمل الأب بتفانٍ ليؤمّن لأسرته حياة كريمة.
*عندما يتفوق الأبناء في دراستهم ويسعون للخير.
*عندما يبتسم الجدّ بحكمة ومحبّة للجيل الجديد.
*عندما نتبادل الغفران الصادق والمصالحة التي تطهّر قلوبنا.
لا تفقدوا الرجاء
يدعونا قدّاسة البابا فرنسيس ألّا نفقد الرجاء بقوله : “المسيح القائم هو رجاؤنا، وبهذا الرجاء ننظر إلى المستقبل ولا نستسلم لليأس”. ففي كلّ عمل خير نقوم به، وكلّ بذرة محبّة نزرعها في قلوب الآخرين، نشارك في بناء ملكوت الرجاء الذي وعدنا به المسيح.
نعم، أيّها الأحبّاء، هناك العديد من العائلات التي تتألّم في صمت: من وطأة المرض، ومن ضغوط الحياة المتزايدة، ومن مرارة الانفصال، ومن شبح البطالة، ومن قسوة الوحدة، ومن الخوف من المستقبل المجهول. كم من شباب يخشون اتّخاذ قرار الزواج المقدّس، ويتشكّكون في إمكانيّة الاستقرار في عالم يموج بالتقلّبات. ولكن تذكّروا دائمًا أنّ هشاشة العائلة تنعكس سلبًا على المجتمع بأسره. “فلا مستقبل للمجتمع بدون العائلة” (فرح الحب، 31).
الخاتمة
إنّ القيامة المجيدة تعلّمنا أنّ الله قادر على أنْ يجدّد كلّ شيء، وأنْ يقيم ممات، وأن يشفيَ ما جُرح، وأن يُنير ما نظنّه مظلم إلى الأبد. فهل نرجو ذلك حقًا؟ هل نؤمن بهذه القوة الإلهيّة؟ هل نطلبها بإلحاح في صلاتنا؟ وهل نعمل بكلّ جدّ لتحقيقها في حياتنا وحياة عائلاتنا؟
هذا العيد المقدّس هو دعوة صادقة لكلّ عائلة لتُجدّد رجاءها في قوة المسيح القائم. دعوة إلى كلّ أب وكلّ أم وكلّ طفل وكلّ جد وجدة ليفتح قلبه لقوة المسيح المنتصر على الموت الروحيّ والجسديّ.
فلتكن بيوتنا أماكن مقدّسة للصلاة الخاشعة، والغفران الصادق، والفرح الحقيقيّ، والتضامن العميق. لتكن موائدنا أماكن للمشاركة الدافئة والمحبّة الباذلة. لتكن كلماتنا مملوءة باللطف والحنان، ولتكن جراحنا منفتحة على رحمة الله الشافية. ولتكن كلّ عائلة، مهما كانت حالتها، مكانًا للقيامة والرجاء المتجدّد.
أخوتي وأخواتي، لنصلِّ معاً من أجل سلام العالم كله وخاصة البلاد التي تعاني الحروب والدمار ومن إجل اللاجئين والمشردين من ديارهم.
لنصلِّ من أجل مصرنا الغالية وشعبها الأصيل وكلّ القائمين على خدمتها، سيادة الرئيس عبد الفتّاح السيسي والمعاونين له. نصلّي لكي تظلّ مصرنا متماسكة تعيش قيمها الروحيّة ويعمل كلّ في مكانه من أجل رفعتها وازدهارها.
لنصلِّ من أجل العائلة في كلّ مكان فى العالم، لكي تظلّ حجر الزاويّة للمجتمع البشريّ، وكلّ ما يطمح إليه من رقيّ وتقدّم.
لنصلِّ من أجل الكنيسة وكلّ مؤمنيها وخدامها، حتى تظلّ شاهدة الرجاء الأمينة لقيامة المسيح، على مثال أمّنا العذراء مريم.
المسيح قام! ومعه، فلنقم نحن أيضًا، ولتقم عائلاتنا معه في نور قيامته المجيدة. وكلّ عامّ وحضراتكم بخير.
إبراهيم إسحق،
بطريرك الإسكندريّة للأقباط الكاثوليك،
ورئيس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في مصر.