عشرات آلاف الشبان والشابات الإيطاليين غصت بهم الساحة الفاتيكانية عند الساعة السابعة من مساء الخميس للمشاركة في يوبيل الشبيبة الإيطالية، ترأس الاحتفال رئيس مجلس أساقفة إيطاليا الكاردينال تسوبي الذي شدد على ضرورة أن تُجرد القلوب والأيادي من السلاح في عالم مطبوع بالعنف. وقد استمع الحاضرون إلى رسالة فيديو لبطريرك القدس للاتين الكاردينال بيتسابالا الذي لفت إلى أن عملية صنع السلام ما تزال ممكنة، مشيداً بما يقوم به العديد من الأشخاص الذين يرفضون الاستسلام للشر وسط هذا البحر من انعدام الثقة والحقد.
يوبيل الشبيبة الإيطالية جرى تحت عنوان “أنت بطرس”، وتخللته لوحات موسيقية وقراءات بيبلية وشهاداتُ إيمان، وشاء من خلاله المنظمون أن يعيش الشبان والشابات الإيطاليون هذا الحدث متّحدين كعائلة واحدة، وقد طلب منهم الكاردينال تسوبي أن يشعروا بمعانقة الكنيسة لهم والتي تنظر بفرح وثقة وتعاطف إلى النضارة والعفوية اللتين تميزان حياتهم. وقال نيافته إن فكره يتوجه إلى البابا فرنسيس، مشيرا إلى أن البابا الراحل ينظر إلى هؤلاء الشبان من السماء ويباركهم.
وضع حد للحروب
في العظة التي ألقاها بالمناسبة؛ أكد رئيس مجلس أساقفة إيطاليا أن البشرية مدعوة اليوم إلى وضع حد للحرب وإلا وضعت الحرب حداً للبشرية. وأشار إلى أن فكره يتجه أيضا نحو الأشخاص الذين يصنّعون الأسلحة ليقتلوا الآخرين، وليقضوا على مقومات الحياة، بما في ذلك المستشفيات.
وقال نيافته: إن الكنيسة تقف اليوم عند أقدام الصليب، وتغمر الدموع عينيها، وقلبُها جريح نتيجة الآلام التي تصيب البشرية كلها. ولفت تسوبي إلى العديد من الحروب والصراعات التي تُخاض اليوم حول العالم، والتي لا جدوى منها، وقال “يكفينا أن نزور مدافن الحروب”، مذكرًا بالنداء الشهير الذي أطلقه البابا لاوُن في أعقاب انتخابه عندما دعا إلى العمل من أجل سلام منزوع السلاح وينزع السلاح. وأضاف تسوبي: دعونا نجرد قلوبنا من السلاح كي نتمكن بدورنا من تجريد القلوب والأيادي من السلاح، ومن مداواة الجراح والحيلولة دون نشوب صراعات جديدة.
واستكمل نيافته: أن عالمنا اليوم يقبل المواجهة والانقسامات كأمر طبيعي، وهو عالم فقد رشده، ولم يعد يخاف من القوة الهائلة المدمرة للأسلحة النووية، معبرًا عن قلقه حيال منطق التسلط الذي يبدو اليوم أمراً طبيعياً. وقال: إنه يود أن يتبنى النداء الذي وجهه بطريرك القدس للاتين الكاردينال بيرباتيستا بيتسابالا إلى الشبيبة داعياً إلى العمل من أجل السلام، والدفاع عن الحياة البشرية في جميع مراحلها، منذ اللحظة الأولى لتكوينها وحتى موتها الطبيعي، لافتا إلى أن هذا المنطق ينبغي أن يُطبق على جميع الأشخاص، بدون أي تمييز، لأنه مرتبط بكرامة الكائن البشري. وقال إن هذا المفهوم يكتسب أهمية كبرى في عالم اليوم المطبوع بالحروب والمواجهات ومشاعر الانتقام. وتمنى رئيس مجلس أساقفة إيطاليا أن تصبح الجماعات كافة بيوتاً للسلام، وأشار إلى أن الجماعات – حتى لو كانت صغيرة عددياً – تكون عظيمة إذا ما كانت متواضعة، وحرةً إذا ما عاشت المحبة وعمل أفرادها من أجل بعضهم البعض. وقال إن الجماعات الصغيرة تكون عظيمة إذا ما وُجد الرب بداخلها، وتستطيع بالتالي أن تفعل أموراً عظيمة. وشجع الشبان والشابات الحاضرين في الساحة الفاتيكانية على إعلان إيمانهم – بشكل فردي أو جماعي – كي يعضدوا بعضهم بعضاً ويرتكزوا إلى الصداقة والأخوّة. وشدد على ضرورة أن نحب بعضنا بعضاً لأن المحبة تشفي، وتصلح كل الأشياء، أكثر مما يمكن أن نتصور.
سكان الأرض المقدسة يعيشون ليلاً لا يعرف نهاية
في رسالة الفيديو التي وجهها إلى المشاركين في يوبيل الشبيبة الإيطالية توقف البطريرك بيتسابالا عند الأوضاع في الأرض المقدسة ولفت إلى المأساة الراهنة اليوم – والتي يصعب تصورها – بسبب النقص في الغذاء والدواء، وقال: إن الجوع ليس “نظرية”. وأضاف: أن سكان الأرض المقدسة يعيشون اليوم ليلاً لا يعرف نهاية، وثمة حاجة إلى نظرة الإيمان، مشيرًا إلى أن الألم موجود ولا أحد يستطيع أن ينكر ذلك، لكن علينا أن نحمل التعزية والسلوان وسط هذا الألم. ولفت إلى وجود العديد من الأشخاص في المنطقة الذين يشعّون بنورهم، وهذا يصح بالنسبة لقطاع غزة، كما في كل الأرض المقدسة بما في ذلك إسرائيل، حيث الوقوف إلى جانب سكان غزة يولّد غالباً سوء الفهم. ولفت إلى وجود العديد من الرجال والنساء الذين رفضوا الاستسلام إلى هذا الواقع المرير المطبوع بانعدام الثقة والحقد، وهم يراهنون على العمل معاً وعلى التعاون.
وأوضح بيتسابالا في هذا السياق أن هناك شبكة من رجال الدين والمتطوعين المنتمين إلى كل الديانات، الذين يشكلون علامة جلية لهذا اليوبيل، إنهم بمثابة منارة علينا أن نوجه أنظارنا نحوها كي نستعد لمرحلة إعادة إعمار ما هُدم، وترميم النسيج الاجتماعي الممزق. وقال بطريرك القدس للاتين: إننا ككنيسة موجودون على الأرض، وسط الصعوبات الكثيرة وسوء الفهم، إننا موجودون من خلال الحوار والنقاش، وعلينا أن نحمل للآخرين –على غرار الرسل الأوائل، لاسيما القديس بطرس– كلمة ولغةً تبني وتفتح آفاقاً جديدة، وتخلق فرصاً لاستعادة الثقة.
(راديو الفاتيكان)
البابوات والشباب والفرح الحقيقي الذي هو اللقاء مع الرب يسوع
تزامنا مع إحياء أمسية الصلاة في تورفرجاتا بحضور البابا لاوُن الرابع عشر والتي تشكل ذروة يوبيل الشباب نستعرض بعض التأملات الصادرة عن الأحبار الأعظمين السابقين والتي تسلط الضوء على الفرح، هذا الفرح الأصيل، لا الفرح العابر، الذي يُعاش بملئه لأنه مرتبط بشخص، ألا وهو الرب يسوع المسيح.
تعيش روما في هذه الأيام أجواءً من الاحتفالات والبهجة لمناسبة يوبيل الشبيبة الذي يشارك فيه عشرات آلاف الشبان والشابات القادمين من أنحاء العالم كافة. وهذه الأجواء لم تقتصر على الفاتيكان والأحياء المحيطة به بل تشمل المدينة الخالدة برمتها، لاسيما منطقة تورفرغاتا التي تستضيف مساء السبت أمسية الصلاة واللقاء بين الشبان والبابا لاون الرابع عشر.
شبان وشابات قدموا من أكثر من 140 بلداً حول العالم عاشوا أجواء الاحتفالات وصلوا أيضا مطلقين صرخة تطالب بإحلال السلام في العالم، لاسيما إزاء سيناريوهات الحرب والمواجهة التي نشهدها في العديد من الدول والمناطق. ومما لا شك فيه أن البهجة التي يعيشها هؤلاء هي معدية، إنهم شبيبة البابا، وهم أيضا بمثابة بركة للعالم كله وليس لمدينة روما وحسب. إنهم شبان وشابات ينتمون إلى ثقافات وجنسيات مختلفة، يتكلمون بلغات عدة، رفعوا أعلام بلدانهم، يعيشون الرجاء نفسه ويوحدهم اسم واحد وهو اسم يسوع.
هذا الفرح الحقيقي والأصيل الذي يعيشه الشبان اليوم شكل محوراً لتأملات وخطابات وتعاليم البابوات السابقين. فخلال استقباله وفداً من الشبان والشابات القادمين من بيرو، في 28 يوليو الماضي، تمنى البابا لاون الرابع عشر ألا يبقى الاحتفال بيوبيل الشبيبة مجرد ذكرى، كمن يحتفظ بصورة فوتوغرافية جميلة، أو كشيء من الماضي وحسب، آملا أن يتمكن الشبان المشاركون في هذا الحدث وبعد عودتهم إلى بلادهم من أن يملئوا أرضهم بالفرح وبقوة الإنجيل.
جزء من شعب الله ومن الكنيسة الجامعة
وقال البابا بريفوست إن المشاركين سيختبرون الشعور بأنهم جزء من شعب الله، وجزء من الكنيسة الجامعة، التي تعانق الأرض برمتها، دون أي تمييز عرقي أو لغوي أو قومي، إنها تمتد كشجرة الخردل وتنمو كالخميرة في العجين. وأضاف لاون الرابع عشر أنه يود من الشبان والشابات الحاضرين في روما أن يحتفظوا في قلبهم بكل ما عاشوه خلال هذا الأسبوع، لكن لا بد أن يتقاسموا خبرتهم هذه مع الآخرين.
مما لا شك فيه أن العالم – لاسيما المجتمعات المتقدمة تكنولوجياً – مفعم بالأنوار التي تجذب الإنسان إليها وتجعله يختبر حالة من السعادة الزائفة، التي هي عبارة عن إرضاء للذات بشكل عابر. بيد أن سر الفرح الحقيقي له اسم واحد، ألا وهو الرب يسوع المسيح، وهذا ما شدد عليه البابا يوحنا الثالث والعشرون في رسالته إلى مدينة روما والعالم في الخامس والعشرين من ديسمبر ١٩٥٩.
قال البابا رونكالي آنذاك: لقد وُلد لنا مخلص، إنه الرب يسوع المسيح. وفي ذلك يكمن سر السعادة الحقيقية، التي لا يمكن أن يجدها الإنسان في ضوضاء هذا العالم وفي الأمور الدنيوية. إنها سعادة لا يقضي عليها أي شيء، بما في ذلك الضيقات، إنه فرح أن ندرك أننا مخلصون، وبأن يسوع هو أخونا، إنه طيب ويحبنا، وقد جعلنا مشاركين في طبيعته الإلهية، ورفعنا إلى الشركة مع حياة الله.
كثيرون هم الأشخاص الذين يسعون اليوم إلى إيجاد السعادة في الملذات الدنيوية، لكن الفرح الحقيقي ليس فرحاً سطحياً، لأنه يغمر قلب الإنسان وهو ثمرة للروح القدس. البابا يوحنا بولس الثاني، وفي مقابلته العامة مع المؤمنين في 19 يونيو ١٩٩١، وبعد أن توقف عند رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل تسالونيكي أكد أن الإنجيل هو دعوة إلى الفرح، وهو اختبار للفرح العميق.
وأضاف البابا فويتويا في تلك المناسبة يقول إن المسيحي وإذا أحزن الروح القدس، لا يستطيع أن يأمل في امتلاك الفرح الحقيقي الذي يتأتى من الروح، مذكرا بأن ثمرة الروح القدس هي المحبة والفرح والسلام، كما يقول القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية. وقال يوحنا بولس الثاني إن الروح القدس وحده يمنح الفرح العميق والتام والدائم، والذي يطمح إليه قلب كل إنسان، مضيفا أن سلفه البابا بولس السادس شاء من خلال الإرشاد الرسولي “افرحوا بالرب” أن يذكّر المسيحيين ورجال ونساء زماننا بأن الفرح الحقيقي هو عطية من الروح القدس.
أما البابا بندكتس السادس عشر فأكد من جانبه أن هبة الفرح الحقيقي لا تقتصر على قلة من الأشخاص، لأنها جاءت بمثابة إعلان نبوي موجه نحو البشرية برمتها. ولفت البابا راتزنغر في كلمته قبل تلاوة صلاة التبشير الملائكي في 17 ديسمبر ٢٠٠٦ إلى أن ثمة أشخاصاً كثيرين يفتقرون إلى الفرح الحقيقي والأصيل، لكنهم يستطيعون أن يجدوه من خلال التجدد الداخلي. وقال إنه يفكر بمن فقدوا معنى الفرح الأصيل، ويبحثون عنه حيث لا يمكن أن يجدوه، مذكرا بأن الدعوة إلى الفرح ليست بمثابة علاج تخفيفي عقيم، بل هي نبوة مرتبطة بالخلاص، وهي دعوة إلى التجدد من الداخل.
من جانبه أكد البابا فرنسيس أن الرسالة المسيحية هي إعلانٌ لفرح عظيم، هذا الفرح المتصل بشخص يسوع الذي هو الفرح الحقيقي، مشدداً على ضرورة أن يكون الفرح الصفة التي تميّز نمط حياة كل مسيحي ودعا المؤمنين إلى إعلان المسيح على الآخرين بفرح لأنه بغياب الفرح لا نستطيع أن نحمل هذه البشرى للآخرين.
(راديو الفاتيكان)