غرّدْ أيُّها العندليب وأصدح! – يوسف ناصر – الجليل

قم باكرًا بيننا كما عهدتك، وأجعل الصباح البهيج مقيمًا عندنا دائمًا في هذا العالم! وأنهض في ليل هذا الزمن الداجي وأصدح ليكون ليلًا أبيضَ لا ينعب فيه غراب، ولا ينأم في خرابه بوم.. وأجعل صدور الحزانى منابرك، وبيوت الفقراء روضتك، وقلوب الثكالى دوحتك، وعلى غصونها الذابلة أنشدْ وغرّدْ وردّدْ! وأحمل صوتك على أجنحة الأنسام الراحلة مبشّرًا بالفرح والرجاء والخلاص من جحيم هذه الأرض التي تطبخ البشرية جمعاء في قِدْر من نار ولهب، وتوشك أن تمضي بها نحو الفناء وتحترق!      

كنتَ من قبلُ سجينًا في قفص عندي، فوبّختُ نفسي ندمًا لجنايتي على حرّيتك، وجلدتها بسياط من إبر حتّى أدميتها إذ جعلَتْني سجّانًا لك يومًا، حابسًا لألحانك، مقَيّدًا في زنزانة سمعي دون غيري، وأسيرًا لا تبرح قفص أهداب عيني وحدي، فلا تأنس بك الخمائل والجداول، ولا يزدان السنديان والغار والزيتون بجمال حُلّتك الحريرية، وأجراس صوتك الموّاج، فأطلقتك، ولا تنسى لنبلك أن تأتي كلّ صباح إلى نافذتي تغنّي وفاءً لصاحبك، وعرفانًا بمعروف مَن ظلمك لا مَن أحسن إليك حين عزّ الوفاء بالعهود، وغاب منذ زمن سحيق حفظُ المعروف لمن أحسن! فكيف مَن حفظَ المعروف مثلك لمَن أساء!

يا قيثارة الجليل! ما أكبرَ صغرك، وما أصغرَ كبر العالم فيك! إنّك بصغرك أيّها المطرب الموهوب، قد بغّضتَ إلى نفسي الصقور الجوارح، والنسور الكواسر.. أنت نجم المجوس الطائر في الفضاء نهارًا، وعلامة من علامات السماء في الأرض، وإعلان من إعلانات ألله تتحدّى جبروت الموت، وظلمة الأحزان، وفَتكة الوحوش الضواري، وتبشّر بالسلام، وتمنع اليأس المميت عن نفوس المكروبين، وتدفعهم إلى التأمل الدائم بأنّ المحبة هي المنتصرة على البغضاء، وأنّ النّور يمحو الظلام دائمًا في الأرض.

إيّاك أن تسكت، فتبرح منابرك في الرياض، وعلى القمم، وفي الأثير! غرّدْ وأنشدْ لتعزّي وتبشّر بالسلام المفقود في العالم، لأنّه عصر الدموع والنواح، ومواكب الجنازات، وسيول الدماء، وزمن الموت الرخيص الذي يقتل العنادل، ويحبس الفرح عن بشريّة كئيبة! فلا تعجبْ إنِ اشتد الحر وجاءك القيظ يومًا، ووقفت على غصون الشجر لتغنّي أن تجدها رؤوسَ حيّات رُقْط تنغضضن بألسنتها لتلدغك، وثمارها قنابل تتدلّى لتصرعك، وأوراقها جمرات تتلظّى نارًا لتحرقك!  فعاجلْ وأخرج من فورك حين ذاك، وقف على ظهر سحابة بيضاء، ورتلّ هناك وغرّد ولا تخف! وإن جعتَ وعطشتَ يومًا فتعالَ وقف على راحة كفّي لأطعمك حبّات قمح من قلبي، وقطرات ماء من عيني لأنّك بشير سلام ومحبة ورحمة في هذا العالم.

إنّ شلّال الألحان الصاخب الذي يتدفّق من موسيقا حنجرتك أبلغ من كلّ كلمة جرّها قلم، ونطق بها لسان! وإنّ من حنجرتك تطير أصوات كلّ المغنين الذين غنّوا لفرح الناس منذ نشأة البشرية!  قُلْ لي: ومَن غير الموسيقا بزخّاتها إذا انهمرت على الأرواح الحزينة، له القوة في هذا العالم أن يُخرج الدمعة من المآقي في تذكار الأحبة، ويؤجّج الحنين إلى من غابوا، ويطهّر القلوب من كلّ حزن وألم، وينقّي النفوس من كلّ حقد وضغينة، وينعش النفس من غمّائها بالفرح، ويدفع الإنسان إلى الندم عن إساءة ارتكبها، ويحضضه على مسامحة من أساؤوا إليه وأذنبوا! ومَن غير الموسيقا يُرقّق الطبائع الخشنة، ويَهيج الحس المرهف، ويرتفع بسامعها حتّى يصل حدّ التأله بطاهرته وصفاء روحه من كلّ رجس ودنس!

“تعالَ وأنظر” أيّها القديس الصغير! إنّ ربّ الناس في هذا العالم مالٌ رخيص في جيوبهم.. ومعبودهم في أيديهم ورق رِقٍّ يستعبدهم.. يعظّمون هذا الإله الصنم الذي يُبدع أفانين الغنى الحرام، والطمع والظلم، والاستبداد في الأرض! اُنظرْ كيف خرجتِ الوحوش الضواري المختبئة في صدور أكثر الناس تهجم كالحة الأنياب تطلب فريستها، فلا تسمع سوى أنين المعذبين، ونواح الثكالى في الأرض…! وأكثر الناس يُصلّون دجّالين.. ويطلبون المعابد سرّاقين.. ويدعون إلى الرحمة سفّاحين.. ويتملّقون الطغاة مُرائين! يخرجون بأنفس الحلل وأبهى الملابس إلى لقاء أحدهم طمعًا برضاه، ودفعًا لشرّه! فالويل لأولئك الذين يخشون الملك الأرضي الزائل، ويتحامون غضبه، ولا يخشون ربّ الأرباب وملك الملوك السرمدي في السماء، ولا يتزيّنون بحلل الفضائل وثياب الأخلاق عند مقابلته يوم الدينونة وساعة الغضب.. “فمن له أذنان للسّمع فليسمع”.

Exit mobile version