مصر والقوة الناعمة – الأب رفيق جريش

بعد أن احتفلت مصر، والعالم أجمع معها، بافتتاح المتحف المصري الكبير، وبعد هذه الاحتفالية الضخمة بما لها وما عليها، وانبهار العالم بما قدمته مصر، لا يسعنا إلا أن نقول مجدداً مع وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو إن إفتاح المتحف المصري الكبير يمثل ميلاداً جديداً للقوة الناعمة المصرية، وإن كان كل مؤسسات الدولة والمثقفون والإعلاميون مسؤولين عن إبراز هذه القوى الناعمة، إلا ان وزارة الثقافة سيكون عليها دور في إزالة الغبار الذي اعترى هذه الوزارة، والتي تعمل أغلب أجهزتها بعقلية المواطنين البيروقراطيين، وهذا لا يتماشى مع دور الوزارة في رعاية الثقافة عامة، ولا يتماشى مع طبيعة المرحلة التي نمر بها حالياً، خاصة بعد الافتتاح الكبير للمتحف، فإذا رجعت ريما لعاداتها القديمة، ستكون نقمه على الثقافة وقوتنا الناعمة.

القوة الناعمة لا تُصنع فقط عبر ما نملكه من آثار، بل عبر من يملك القدرة على سردها وإعادة تقديمها بلغات العصر. واليوم تمتلك مصر جيلًا كاملًا من المبدعين في مجالات التصميم الرقمي، الموسيقى المعاصرة، السينما المستقلة، المحتوى الثقافي على المنصات العالمية. إن دعم هؤلاء الشباب ليس خيارًا ثقافيًا فقط، بل ضرورة استراتيجية لتجديد صورة مصر عالميًا، لأن جيل ما بعد الإنترنت لا يتلقى صورته من النشرات الرسمية، بل من الإبداع الحر الذي يصل إلى العالم بلا وسيط سياسي.

تذخر مصر بمئات الأشخاص الذين وصلوا إلى العالمية، وهذا ما أبرزه حضورهم في هذه الاحتفالية ومشاركتهم الفعالة فيها، كما تذخر بمئات بل آلاف من الشباب ذوي الطاقات الخلاقة والمواكبة للعصر، والذين يمثلون الركيزة الأساسية للقوة الناعمة الجديدة، وإضافة للطاقات الموجودة التي لها تاريخ عريق. وكمثال لذلك، نرى الأوركسترا السيمفوني وفرق البالية والموسيقى العربية وغيرها، إضافة إلى كوكبة من المفكرين والفنانين من مختلف المجالات الذين يحتاجون إلى من يشجعهم ويدعمهم فنياً ومادياً ومعنويا.

والواقع أنه حين تعجز السياسة عن فتح الأبواب، تنجح الثقافة في فتح القلوب. فالفن والآثار والسينما والموسيقى أدوات قادرة على بناء صورة إيجابية للدولة في الخارج، بفاعلية تفوق بيانات السفراء ووزارات الخارجية. ويمكن لمصر أن تعود كلاعب ثقافي دولي إذا أطلقت “استراتيجية تصدير ثقافي” تجعل من حضورها الفني جزءًا من علاقاتها الدولية، كما فعلت كوريا عبر الموسيقى، والهند عبر السينما، وفرنسا عبر اللغة والفنون. نحن نملك محتوى جاهز، وما ينقصنا هو إدارة ذكية لتسويقه.

نجاح الاحتفالية يجب ان يكون رؤية لإرادة وطن. والمواطنين الذين يعرفون الهدف الأسمى ويؤمنون بأن الحفاظ على تراثهم، بل اكتشاف كل ما يخبئه باطن الأرض هو استثمار في مستقبلهم. والمتحف الكبير لا يحتوي على آثار فقط، بل هو بيت للحضارة المصرية، وهو أساس هوية كل مصري، ونافذة تطل فيها الحضارة المصرية على العالم وتأكيد لرؤيتها الحضارية الإنسانية.

لهذا كان افتتاح المتحف المصري الكبير حدثًا عالميًا، لكن نجاحه الحقيقي لن يقاس بعدد الحضور ولا بحجم التغطية الإعلامية، بل بما سيحدث بعده. فإما أن يتحول إلى نقطة انطلاق لمشروع ثقافي وطني يعيد تعريف دور وزارة الثقافة والقوة الناعمة المصرية، أو يتحول إلى ذكرى جميلة لا تغيّر شيئًا. الخيار بيدنا، وليس في يد التاريخ.

اقترح أن لهذه المناسبة الكبيرة يجتمع عدد من المفكرين وذوي الرؤية الثاقبة لوضع برنامج لتحديث دور وزارة الثقافة حتى تنطلق بنا لآفاق على مستوى الحدث الذي شاهدنا من المتحف ليس فقط يجسد قصة مصر القديمة، ولكن تعكس فلسفتها في أن تكون الحضارة والتحضر ركيزة للتنمية والتعامل بين الشعوب.

Exit mobile version