منذ نشأة رسالة التعليم، كانت مجانية التعليم تقوم على المبادئ الإنسانية والروحية التي تعزز قيم المساواة والعدل والازدهار العلمي والثقافي والاجتماعي. إلا أن بعض الجامعات والمدارس الخاصة قد انحرفت عن هذه الرسالة السامية، وسعت إلى تحويل التعليم إلى تجارة بحتة، غير عابئة بالنتائج الوخيمة التي تترتب على هذه السياسات الجائرة. إن هذا الارتفاع غير المبرر في الأقساط لا يقتصر تأثيره على الشق الاقتصادي فحسب، بل يمس جوهر المجتمع المصري، حيث يؤدي إلى تهميش شريحة كبيرة من المواطنين، وحرمانهم من حقهم الأساسي في التعليم الجيد. وفي ظل الارتفاع الجنوني وغير المبرر في أقساط الجامعات وبعض المدارس الخاصة في مصر، نجد أنفسنا أمام تحديات خطيرة تمس جوهر رسالة التعليم في وطننا.
فالتعليم، الذي كان يوما أداة لتحقيق العدالة والمساواة بين الجميع، يتحول اليوم رويداً رويداً إلى سلعة نخبوية تُباع وتُشترى، مما يخلق طبقية تربوية غير مقبولة، ويعزز الانقسامات الاجتماعية التي تعصف ببلدنا. إن حق التعليم لا يجب أن يكون مرهونا بقدرة العائلات على دفع الأقساط المتضخمة التي تزداد عاما بعد عام دون مبرر حقيقي، مما يضع عبئا إضافيا على كاهل الأسر المصرية التي تعاني أصلاً من أزمة اقتصادية خانقة. وهنا، ومنعاً للتعميم المجحف، نشكر الجماعات والمدارس التي حافظت على الاتزان في تحديد الأقساط وأخذت أوضاع الناس القاسية بعين الاعتبار.
إننا نؤكد أن التعليم يجب أن يكون حقا للجميع، دون تمييز أو تفرقة. ومن هنا، ندعو إلى تعزيز دور الجامعات المصرية والمدارس الرسمية في مصر، وإلى رفع مستواها لتكون خيارًا موازياً وقويا أمام الجامعات والمدارس الخاصة. إن الواقع يثبت أن الجامعة والعديد من المدارس الرسمية قد حققت نجاحات باهرة وتفوقت في مستواها التعليمي على بعض الجامعات والمدارس الخاصة، مما يدحض الادعاء بأن الجامعة المصرية والمدارس الرسمية أقل كفاءة أو جودة. لذلك، يجب أن نعمل جميعًا على دعمها وتوفير الإمكانيات والموارد اللازمة لها لتستمر في أداء دورها التربوي والاجتماعي على أكمل وجه.
لا ينبغي أن يخجل الأهالي من إرسال أبنائهم إلى المؤسسات التربوية الرسمية التي تستوفي المعايير التربوية والتعليمية المطلوبة. إن الاعتزاز بهذه المؤسسات الوطنية هو خطوة أساسية نحو تعزيز الثقة بالنظام التعليمي المصري، وتحقيق العدالة التعليمية التي هي حجر الزاوية في بناء مجتمع سليم ومتوازن.
ولا يجب على وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي أن تشجع هذا الانحراف بدعوى قلة الموارد المالية لديها، بل المنوط بها أن تحقق التوازن، ليس المالي فقط، ولكن الطبقي بين جميع المصريين. فلا يعقل أن من معه المال الوفير يعلم أبناءه تعليماً يقال راقيا، رغم أن في الواقع الأليم ينتج شباب وطلبة متغربين عن مجتمعها المصري والواقع المعاش. ومن جانب آخر، يستمر الطلبة من أبناء محدودي الدخل في حفر الصخر.
كذلك نأمل من المدارس الكاثوليكية أن تكون أيضا أمينة لدعوتها كمعلمة ومشاركة في نشأة جيل مصري متعلم ومكون تكويناً إنسانيا، وألا يأخذها الفكر الاستهلاكي الذى يداهم مجتمعنا بكل أسف.
نحن نعتبر أن هذا الارتفاع الفاحش في الأقساط بلا مبرر منطقي هو بمثابة شوكة في ظهر المجتمع المصري وعلى أجياله الصاعدة، قد تهدف إلى دفعهم نحو اليأس والإحباط ووقف التفكير ببناء عائلة، والاستسلام لهاجس الهجرة كحل للهروب من هذا الواقع المرير. إننا نرفض هذه السياسات الجشعة التي تسعى إلى تدمير أحلام الأجيال القادمة ونطالب المسؤولين والمعنيين بالتحرك الفوري لوضع حد لهذه الأزمة، واتخاذ التدابير اللازمة لضمان حق التعليم للجميع، بعيدًا عن استغلال حاجات الناس وتحويل التعليم إلى رفاهية لا يقدر عليها سوى القليلون.
نحن نؤمن إيمانا ً راسخاً أن التعليم هو الحجر الأساس في بناء مستقبل مصر، وأن ضمان حق الجميع في الحصول على تعليم جيد وعادل هو مسؤولية وطنية وأخلاقية تقع على عاتق الدولة أولا، بل وعلى عاتقنا جميعًا.
الأب رفيق جريش