تاريخ مصر وحضارتها، بجانب جغرافيتها، في وسط العالم ما بين آسيا وأفريقيا، تجعل طبيعتها مُرحبة بكل قادم إليها، كما أحب أن أصفها مثل الشجرة.. فالدلتا تفتح أذرعها نحو العالم، مما تجعلها منفتحة ومستقبلة، بينما جذورها مع النيل ومنابعه تصل إلي قلب أفريقيا.
ومصر دائما وأبداً كانت مستقبلة لكل من يلجأ ويلوذ إليها، بدءً من الرسل والأنبياء والعائلة المقدسة، حتى الشوام والأرمن الذين فروا من بطش العثمانيين، ثم اليهود والإيطاليين واليونانيين الذين جاؤوها في عصر الخديوي إسماعيل وما بعده بحثاً عن لقمة العيش.
اليوم أصبح المهاجرون الذين وصل تعدادهم إلي ما يقرب العشرة مليون عبئاً على المواطنين والحكومة على حدٍ سواء. وموضوع المهاجرين أصبح صداعاً لدول كثيرة مثل إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وإنجلترا والولايات المتحدة وكندا وغيرها، وهي دول أغنى منا بكثير. هي مازالت تستقبل مهاجرين ولكن بالقطارة، واضعة شروط تعجيزية للهجرة إليها، خاصة أن الجماعات المهاجرة إليها لم تستطع أن تندمج كليةً فيها. كثيرون عاشوا على هامش المجتمع وفي أفقر الأحياء، لذا ظهر فيها التطرف والإرهاب والمخدرات والإباحيات وما إلى ذلك.
وهناك عدة أنواع من الهجرة لابد من دراستها عند التعامل على هذا الملف.
هناك الهجرة الشرعية الحرةImmigration ، وهناك الهجرة الغير شرعية Clandestine، وهناك اللجوء بأنواعهRefuge ، وهناك النزوح، وهذا الأخير غير إرادي لأنه يتم بسبب الحروب، خاصة الأهلية والفقر والتصحر وغيرها. هناك الخروج الجماعي Exodus أو Deplacement of Population وهناك أيضاً الطرد أو التهجير القصري Expulsion وأخيراً المغترب الذي غالباً يأتي للعمل أو لإقامة مشروع أو مع شركة أجنبية Expatriate .
هذه الأنواع المختلفة تقتضي من الحكومة دراسة كل نوع من الهجرة على حدى قبل إصدار القرارات التنفيذية، والتي تبدو متعسفة، فلا يمكن مساواة الأشقاء السودانيين الذين نزحوا بسبب الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وميليشيا عسكرية، فتركوا مالهم وبيوتهم وملابسهم وجاؤوا تقريباً كما ولدتهم أمهم. فكيف نطالبهم بتوفيق أوراقهم وأوضاعهم مثلهم مثل أناس آخرين جاؤوا كهجرة شرعية للعمل وإقامة محلات ومصانع؟ فالعدل يقتضي أن نفرق، خاصة أن كثيرين يظلون في مصر منتظرين انتهاء أوراقهم من هيئة غوث اللاجئين التابعة للأمم المتحدة والتي تأخذ وقتاً طويلاً للبحث لهم عن دول تستضيفهم فيظلوا في هذه المدة خارج الإطار القانوني لدولة مصر.
مآسي كثيرة نسمعها، ناهيك عن المرضى والمسنين الذين لا أوراق لهم ولكن وضعهم الإنساني مأسوي.
هناك مهاجرون جاؤوا إلى مصر منذ السبعينات والثمانيات لأسباب سياسية ودينية وحروب ولم يتم التعامل بجد وبعمق في هذا الملف وهو الذي أدى اليوم إلى تفاقم الأوضاع، لذا نهيب بدولة رئيس الوزراء والحكومة الجديدة أن تنظر بعين الرحمة إلى هؤلاء ذوي الأوضاع الاجتماعية الصعبة وننظر إلى كل واحد منهم “كإنسان” ونتعامل في هذا الملف “إنسانياً” قبل تطبيق الشرائع والقوانين. ونحن واثقون أن الشعب المصري المضياف والكريم سيتحمل بعض الشيء رحمة مع هؤلاء.
الأب رفيق جريش