
في فجر اليوم الثاني للفصح، أودع قداسة البابا فرنسيس روحه الطاهرة، بعد أن ودع المؤمنين والعالم في ظهر اليوم السابق وأعطانا وصية الوداع. رقد الحبر الأعظم في السنة اليوبيلية، أي الاحتفال بمرور 2025 سنة على ميلاد السيد المسيح والسنة التي أعلنها سنة “الرجاء”، ليتمسك الإنسان بالأمل في حياة أفضل خاصة وسط الحروب السياسية والعسكرية والتجارية التي يعيشها العالم.
بالنسبة لنا في مصر، سنتذكره لأنه أعاد الدفء لعلاقة الفاتيكان مع الأزهر الشريف، فور توليه السدة البطرسية في مارس 2013، كما استقبل قداسة البابا تواضروس الثاني بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المصرية في مايو من نفس العام. وكان البابا المصري في أيامه الأولى على السدة المرقسية كما لم يغلق له جفن، ففي ليلة 14-15 أغسطس 2013، تعرضت أكثر من 85 كنيسة ومؤسسة مسيحية في مصر للتدمير والحرق من قبل قوى الشر التي أرادت أن تبث الفتنة بين أفراد الشعب المصري الواحد.
كذلك كان أول من استقبل السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في نوفمبر 2014 في الفاتيكان. ولا ننسى زيارته لمصر في أبريل 2017، وزيارته لمشيخة الأزهر وإلقاءه خطاباً عن المحبة بين الناس في القاعة الكبرى للمؤتمرات، ثم توقيعه مع الأمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وثيقة “الأخوة الإنسانية” في أبوظبي في 2019، والتي تُعد وثيقة تاريخية للعلاقات بين الأديان وغيرها من المواقف منها. كذلك دعوته للتسامح والانفتاح الفكري والروحي على غير المسيحيين، مثل غسل أرجل مسلمين ويهود ومسجونين في خميس العهد. ودعا البابا إلى نبذ العنف عن المثليين قائلاً العبارة التي كلفته الكثير: “إذا كان الشخص المثلي يسعى إلى الله ويمتلك نية طيبة، فمن أكون أنا لأحكم عليه؟”.
تكلم مراراً وتكراراً عن “تعليم الكنيسة” وهو أن “الله لا يحب الخطيئة، ولكن يحب ويرحم الخاطئ”، كما صرح مراراً أن نظرية التطور لا تتعارض مع الكتاب المقدس، لأنه كتاب روحي وليس كتاب علم، كما سمح لأدوار أكبر للنساء في الإدارة الفاتيكانية وقراءة النصوص في الليتورجية الإلهية، كما حاسب بالقانون رجال الدين، حتى لو كانت مكانتهم عالية وكل المتورطين في الاعتداءات الجنسية.
وأهم شيء كلل حبريته، حبه للمهمشين والفقراء والبسطاء. لقد عاش مثلهم منذ أن كان رئيس أساقفة بوينس أيرس في الأرجنتين، رافضاً العيش في القصر الرسولي ومختاراً أن يقيم في فندق متواضع مع فريق العمل المرافق له، وينتقل في سيارة صغيرة غير فاخرة ولا يجد غضاضة في الاتصال التليفوني الشخصي مع بعض الكهنة، مثل كاهن رعية غزة، للاطمئنان منه على شعبه، أو الخروج خارج أسوار الفاتيكان لشراء بعض الأشياء، إلى آخره.
تألم البابا كثيراً من أجل غزة وقتل الأطفال الأبرياء والنساء والظلم الواقع على الشعب الفلسطيني وهذا هو الخط الذي تبناه الفاتيكان منذ نكبة 1948، وكانت العلاقات مع الكيان الصهيوني دائماً متوترة.
واتخذ البابا موقفاً حاسماً في الحرب الأوكرانية الروسية، وطالب الرئيس بوتين بالعمل للسلام وتفادي قتل الأبرياء. كذلك طالب الحكومات، خاصة الأوربية الغربية والأمريكية، بالرحمة تجاه المهجرين قسراً من بلادهم لأسباب الحرب الأهلية أو الظلم الاجتماعي أو الفقر، بل سكن بعض من العائلات في مقرات تابعة للفاتيكان وكانت عائلات مسلمة، لذا دعي البابا “بابا البسطاء”
ونعود للوصية الأخيرة للبابا فرنسيس الذي أعلنها ليلة وفاته للعالم قائلاً: “أوجه نداء إلى جميع المسئولين السياسيين في العالم لكيلا يستسلموا لمنطق الخوف الذي يُغلق القلوب وإنما لكي يستخدموا الموارد المتاحة لمساعدة المحتاجين، ومكافحة الجوع، وتعزيز المبادرات التي تسهم في التنمية”.
واستطرد قائلًا: “أنتم الذين في الألم والحزن، إن صرختكم الصامتة قد سُمعت، ودموعكم قد جُمعت، ولم تذهب واحدة منها سُدى”. ففي ألآم يسوع وموته، أخذ الله على عاتقه كل الشر في العالم، واقتلعه بقيامته. وختم كلمته داعيا “المسيح القائم، رجاؤنا، السلام والعزاء وضحايا العنف والحرب”. هذه الكلمات الأخيرة التي حملها البابا في قلبه وأعلنها للعالم. فشكراً لله أنه أعطانا قداسة البابا العظيم فرنسيس، وشكراً للبابا على خدمة المسئولية التي تولاها اثنتي عشرة سنة، شكراً كثيراً.